موت طوعي غير مؤلم
اتفقنا مع المبدأ أو اختلفنا معه، تظلّ المعضلة الأخلاقية قائمةً عند نقاش مسألة الموت الرحيم، وهو الخيار المتاح في دولٍ عديدة، مثل سويسرا وبلجيكا ولوكسبمورغ وهولندا، وهو موتٌ طوعي غير مؤلم، يطلبه المرضى الميؤوس من شفائهم. ولا شك في أنّه قرار قاس صعب، رغم واقعيته في أحيان كثيرة، لا يقدم عليه المرء إلّا بعد استنفاد أسباب العيش، سواء بسبب بلوغ أرذل العمر حين يصبح الإنسان عاجزاً عن تلبيه أبسط احتياجاته البيولوجية، ويتحول إلى عبء وعالة على ذويه، ما يزيد من أوجاعه النفسية، يعتبره كثيرون ممن ينتمون إلى خلفيات ثقافيه مختلفة تحايلاً غير أخلاقي على الواقع، فهو بالنسبة لهم محض انتحار وخروج على الطبيعة الإنسانية، ولا يعني لهم تغيير الاسم شيئاً من الحقيقة، لأنّ الأصل في الغريزة الإنسانية هو حب البقاء والتشبث بالحياة باعتبارها هبةً سماويةً لا يجوز العبث بها تحت أي عنوان، غير أنّ المرء سوف يصبو إلى الموت حتما خلاصا من الآلام مبرحة، لا تغادر الجسد السقيم، وتنزع من روحه الرغبة في مواصلة الحياة، إلّا أنّ موقف الأديان السماوية واضح وحاسم في تحريم خيار الموت الرحيم، باعتباره انتحاراً ينطوي على معصيةٍ لمشيئة الله، يحثّون المريض على الصبر والتحمّل والانصياع لإرادة الله الذي بيده وحده تحديد ميقات الأجل.
والتاريخ حافل بأسماء منتحرين فلاسفة ومفكرين وأدباء وفنانين، لم يغادر بعضهم سن الشباب. يحدث ذلك أحياناً بسبب الاكتئاب الشديد، ذلك المرض الخطير الذي نستهين به في ثقافتنا، بل نعتبره ضعفاً ودلعاً وانهزاماً، ولا نتعامل معه بالجدّية المطلوبة، رغم ارتفاع نسبة المنتحرين بسببه في بلادنا وتلك حكاية أخرى. من الطبيعي أن يثير خيار الموت الرحيم جدلاً أخلاقياً وفلسفياً وعلمياً ودينياً، فهو، في نهاية الأمر، قرار واع بإنهاء الحياة. وهذا ما أعلنه أخيراً الممثل والمخرج العالمي، ألن ديلون، الذي ظل عقوداً طويلة رمزاً للوسامة والجمال، حين عبّر عن رغبته بإنهاء حياته بالموت الرحيم، وقد بلغ السابعة والثمانين، وتدهورت حالته الصحية بشكل كبير، إثر إصابته بجلطة في الدماغ وبمشكلات خطيرة في القلب. طلب ديلون تنفيذ إجراءات رحيله في أحد الأماكن المختصة بذلك في سويسرا. وقال، في حوار صحافي، إنّ الموت ليس من ضمن مخاوفه، على العكس، إنه يرى فيه انسحاباً أنيقاً في اللحظة المناسبة، لكنّه يرغب في مغادرة هذا العالم الفاسد، المليء بالعنف والجريمة والظلم كما وصفه.
وكان ديلون صدم كثيرين حين ظهوره في جنازة صديقه الأثير، جان بول بلموندو، متكئاً على عصاه، عجوزاً حزيناً بائساً ضعيفاً لا يقوى على الحركة إلّا بمساعدة الآخرين. قال حينها إنّه سوف يلحق بصديقه قريباً. كلماته، وهو ساحر النساء ومحطّم القلوب تبعث الحزن والأسى على مصير الإنسان المحتوم، مهما حقّق من مجد وشهرة ونجاح، كلّ شيء يغدو ضئيلاً، وبلا معنى إزاء حقيقة الموت المتربص بنا في نهاية الدرب. ومع ذلك مطلوب منا التعايش مع هذه الحقيقة البشعة، ومواصلة السعي في الحياة، على الرغم من شرطها الوجودي المجحف، وهذا أمر يتطلّب إرادة جبارة وقدرة فريدة على التصالح مع حقائق الوجود، لا تتوفر لكثيرين منا، مهما بلغت درجة إيمانه وتسليمه.
من هنا، لا بد لنا من تفهم أسباب الآخرين ممن يفتقدون القدرة على تحمل الألم والمعاناة الطويلة، لأنّ الذي يده في الماء حتماً ليس كمثل الذي يده في النار.