مواجهات شرق الفرات ومستقبل الصراع السوري
بعد 12 عاما على انطلاق الثورة السورية، وتحوّلها إلى حرب وكالةٍ إقليمية ودولية، وساحة تنافس مفتوحة أمام خمسة جيوش أجنبية، اتّضح، في نهاية المطاف، أن مصير منطقة شرق الفرات هو ما سيحدّد مستقبل الصراع في سورية وفي أي اتجاه سيذهب. ورغم أنه كان واضحًا، منذ البداية، أن هذه المنطقة ستكون "بيضة القبّان" في الصراع الدائر على امتداد الهلال الخصيب، خصوصا بعد سيطرة تنظيم داعش عليها عامي 2013-2014، إلا أن تفجّر الوضع بين العشائر العربية والمليشيات الكردية، واحتدام التنافس بين القوى الخارجية في المنطقة أخيرا، يؤكّد صحّة هذه الخلاصة.
سبق أن أطلق مهتمّون بالشأن السوري على مناطق الكثافة السكانية العالية الواقعة غرب سورية اسم "سورية المفيدة". لكن المفيد في سورية حقًا كان تلك المنطقة الواقعة شرق نهر الفرات بين نقطة دخوله الأراضي السورية من تركيا، في جرابلس، شمالا، وصولا إلى نقطة خروجه منها، في البوكمال، على الحدود مع العراق، جنوبا. تتركّز في تلك المنطقة أكثر ثروات سورية الطبيعية من نفط وغاز وموارد مائية وأراض زراعية خصبة (سلّة الغذاء والكساء، القمح والقطن)، والتي يصعب على أي سلطة/ سلطات واقعة غرب النهر الاستمرار بمعزلٍ عنها. وهو ما تدلّ عليه الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعانيها مناطق سيطرة النظام والمعارضة على السواء. لكن الأهم من ذلك الموقع الاستراتيجي لهذه المنطقة، والتي لم تبد الولايات المتحدة اهتماما بغيرها في أثناء سنوات الصراع على سورية، فقد تدخّلت واشنطن، في بداية الأمر، لإخراج تنظيم الدولة الإسلامية منها، عبر إنشاء (ودعم) قوات سوريا الديمقراطية، التي تشكّل "وحدات حماية الشعب الكردية" عمودها الفقري. لكن القضاء على التنظيم لم يقلّص أهمية المنطقة بالنسبة لواشنطن، بل زادها، إذ وضعتها سيطرتها عليها في قلب مربع القوى الرئيس في غرب آسيا (تركيا وإيران والعراق وسورية)، ووضعت، من ثم، في يدها أداة تأثير رئيسة في سياسات هذه القوى، فمن خلال وجودها شرق الفرات، تحفظ واشنطن دورها في الصراع السوري، وفي تقرير نتائجه السياسية والعسكرية، وعبرها تراقب حركة إيران وحلفائها في المنطقة، وتستخدمها أداة ضغط عليها في مفاوضاتها معها حول دورها الإقليمي وبرنامجها النووي، وتبقى كذلك لاعبا مؤثرا في سياسات العراق الذي تحاول إيران إحكام سيطرتها عليه، وتحظى بأداة ضغطٍ قويةٍ على تركيا بوجودها على حدودها الجنوبية ورعايتها الطموحات الكردية. عسكريا، تمثّل منطقة شرق الفرات عقدة ربط مهمة بين القواعد الأميركية في تركيا وشمال العراق والأردن والخليج، ونقطة تمركز إضافية في مواجهة مشروع "الحزام والطريق" الصيني. حتى عام 2014، كانت سورية البلد الوحيد في المنطقة الذي لم تكن تملك واشنطن قواعد عسكرية، أو وجودا من نوع ما فيه. ولأهميتها، عارض البنتاغون قرار الرئيس ترامب الانسحاب منها عام 2019 وعمل على إجهاضه.
وللأسباب نفسها التي تجعل المنطقة مهمة للولايات المتحدة فإنها مهمّة لبقية الأطراف، بالنسبة لإيران تمثل معبرا لا غنى عنه لضمان بقائها في سورية، وهيمنتها على العراق، والوصول إلى حلفائها في لبنان، والحفاظ على نافذة مطلّة على الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. وهي مهمّة أيضا من نواح اقتصادية، إذ تمثّل مناطق شرق الفرات معبرا إجباريا لمشاريع نقل النفط والغاز من الخليج، وإيران والعراق باتجاه المتوسّط، ولا بديل عن ثرواتها إذا أرادت إيران استيفاء ديونها على النظام السوري، والتي تضعها تقديراتٌ عند 50 مليار دولار. بالنسبة لروسيا، تعدّ منطقة شرق الفرات نقطة الحوار الوحيدة الممكنة مع الولايات المتحدة، في ظروف القطيعة الكاملة بينهما بسبب حرب أوكرانيا. لهذا تتزايد الاستفزازات الجوية الروسية لإجبار واشنطن على الحديث معها. وهناك بالطبع اهتماماتٌ روسيةٌ بثروات المنطقة، وبتكريس نفوذها فيها، وإكمال "نصرها" في سورية عبر السيطرة عليها.
بالنسبة لتركيا، تعدّ شرق الفرات قضية أمن قومي تهدّد وحدتها، ولا يمكن التغاضي عنها. لهذه الأسباب، تختلف روسيا وإيران وتركيا والنظام السوري على كل شيء تقريبا، لكنها تلتقي على هدف إخراج الأميركيين من المنطقة، ويشكّل تفجر الصراع بين العشائر العربية والمليشيات الكردية فرصة مهمة لتحقيق ذلك. من هنا، يرجّح أن تستمر المنطقة ساحة صراع ونفوذ يتقرّر بها مصير المسألة السورية برمتها.