مهرجان جرش في البال
تُراه المنزعُ إلى القديم يجعلنا في الأردن، أو كثيرين منا نحن المخضرمين بعض الشيء، نتذكّر سنوات مهرجان جرش للثقافة والفنون الأولى بشيءٍ من الحنين، ونسترسل في مقارناتٍ بين دوراته في الثمانينيات (وبعض التسعينيات) ودوراته التالية، أم أن المهرجان نفسَه لم يعد في المستوى السابق، وبالمتعة البهيجة إبّان تلك السنوات، فاستحقّ الازورار عنه الذي يزاوله تجاهه أردنيون كثيرون، سيما العتاقى من جمهوره الأول؟ أم أن المسألة، في جوهرها، تعود إلى أن المزاج العام سابقا كان أكثر ميلا إلى الفرح والاحتفال والغبطة بالناس والإقبال على الحياة، فيما الكآبة والقلق صارا أكثر، والأوضاع المعيشية تزيد صعوبةً، وسوية المنتوجات الفنية والموسيقية والغنائية والطربية، الفلكلورية والحديثة، الأردنية والعربية، منذ سنوات، ليست كما التي كانت قبل ثلاثة عقود وأكثر وأقلّ. كان الإيقاع العام أكثر قدرةً على صناعة النجوم والمشاهير المحبّبين لدى الجمهور العريض، وكان كثيرون من هؤلاء أقدر على شدّ الناس إليهم، فيما الراهن، منذ عقدين ربما، يعرف فقرا عربيا ملحوظا (مع تقدير أسماء ومواهب لافتة) في إنتاج كفاءاتٍ عاليةٍ في الفنون الجماهيرية، المسرح والغناء والعروض الراقصة و... الأمر الذي انعكس على مهرجان جرش الذي وجدت إداراته نفسَها تستضيف ذوي مواهب أدنى، ومشهورين ليسوا بالتميّز المشتهى، وإنْ يبقى التعميم خطأ، ولكن الحال، في المشهد الأوسع، غير مُرض.
هذه الاسباب، وغيرها، ساهمت في تراجع مكانة مهرجان جرش الذي تُختتم غدا السبت فعاليات دورته الـ36، وشعارُها "نوّرت ليالينا"، وفي ضعفٍ ملحوظٍ في مستواه بشكل عام، مقارنةً بسنوات تألقه الباهر وتميّزه العالمي (نعم العالمي) وتنوّع عروضه وأنشطته وجماهيريته (انطلق العام 1981، وغاب في 1982 بسبب اجتياح بيروت، وتوقف 2008 واستؤنف في 2011). ولمستزيدٍ أن يزيد فيقول إن مدراء له تسلّموه لم يكونوا على أهليةٍ في التخطيط والإشراف والمتابعة وحسن الاختيارات والتنسيق والتواصل. ولا يُغفل، في الأثناء، أن المهرجان تعرّض لحملاتٍ غير قليلة، ولا تُنسى مطالباتُ نوابٍ من الإخوان المسلمين في البرلمان بوقفه، كما أن استهدافا له مورس ضدّه، بارتجالٍ في غير محله، وكثيرا ما غابت الروح النقدية الجدّية المسؤولة، التي تؤشّر إلى العيوب والمؤاخذات وأوجه القصور والتقصير فيه، صدورا عن حرصٍ على المهرجان وبدافع تطويره ووقف تراجعاته. كما أن الحديث الكثير، بالمبالغات المفتعلة، عن "دعم" الفنان الأردني في مهرجان جرش، وهو مطلبٌ واجبٌ طبعا، تجاوبت معه إداراتٌ للمهرجان بكيفيةٍ غير موفقة غالبا. ويضيف صاحب هذه الكلمات ما يراه جوهريا في التراجع المستمرّ لهذه التظاهرة السنوية البهيجة، أن فعالياتٍ ضِمنَه لا تُقام على مسارح المدينة الأثرية في جرش (موقع المهرجان)، وإنما في عمّان وإربد والفحيص والكرك و... (مسرحيات وعروض فنية وأمسيات شعرية و...). ومع التقدير المستحقّ للفكرة وراء هذا، توزيع عروض للمهرجان في عموم المملكة، إلا أن "جرش" بدأ يتراجَع مع بدء هذا الخيار. وثمّة الإشراف الحكومي، المُفرط في وصايته أحيانا، المباشر وشبه المباشر، على المهرجان، وإنْ يجري الحديث عن استقلال إدارته، ففي البال أن سنوات الاستقلالية التامة لمؤسّسة المهرجان، تنظيميا وإداريا وإشرافا، وإنْ بمشاركاتٍ حكوميةٍ لازمةٍ بالطبع، هي السنوات التي كان المهرجان "سيّد نفسه".
كان فكرةً طرحتْها مدرّسةٌ في جامعة اليرموك على الملكة نور، وعلى لجنةٍ ثقافيةٍ من أساتذة الجامعة، فقوبلت بترحيب بها، ثم تشكّلت "لجنة تأسيس مهرجان جرش للثقافة والفنون"، برئاسة أستاذ علم الآثار معاوية إبراهيم (أظنه كان عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية في حينها)، ثم صارت برئاسة رئيس دائرة الصحافة والإعلام (ضمن كلية الآداب في الجامعة) مازن العرموطي (صاحب هذه السطور أحد طلابه)، ثم تشكّلت اللجنة الوطنية العليا للمهرجان برئاسة الملكة نور، ثم صار المهرجان في 1981 بإدارة العرموطي الذي يستحقّ هنا تزجية تحية له، متّعه الله بالصحة، كما خلفُه الراحل ميشيل حمارنة، وخلفُهما أكرم مصاروة أطال الله عمره، الثلاثة الأوائل من مدراء المهرجان الذي غنّت فيه فيروز ونجاة ومحمد عبده ومارسيل خليفة و... وعَرض فيه دريد لحام وعادل إمام ومنصور الرحباني والطيّب الصديقي و... واستضيفت فيه فرق مسرحية وراقصة وفلكلورية من كل العالم، وكان أحلى وأبهج، وفي الوُسع أن يعود أحلى وأبهج.