من يسمّي نيراز سعيد ملكاً؟

20 يوليو 2018

نيراز سعيد.. من يرسم صورته معذبا في سجن شنيع؟

+ الخط -
لماذا خطفوه، ثم حبسوه، ثم عذّبوه حتى موّتوه؟ ما الذي فعله ليقتلوه؟ ماذا أغاظهم منه؟ أسئلةٌ عن نيراز سعيد، الفلسطيني السوري العشريني الذي يتحدر من قريةٍ دمّرها الإسرائيليون قرب طبريا، اسمها عولم، ولا معالم فيها الآن. أقامت أسرتُه لاجئةً في مخيم اليرموك في سورية، ثم نزحت منه إلى دمشق، في أثناء واحدةٍ من جولات حصارِه وقصفِه وتجويع ناسه، في 2015، لكن نيراز آثر البقاء فيه، لأنه لم يكن سهلا عليه أن يرى المخيم الذي ولد فيه على شاشة التلفزيون فقط، على ما قال. يحبّ التصوير الفوتوغرافي، فأمضى شهور ذلك الحصار هناك، يصوّر، ويوثّق، ويلتقط صور فيديو، ويساعد في إغاثة المحاصرين وإسعافهم ما أمكن. ويتواصل، أيضا، مع خطيبته التي أحبّها، واستطاعت الوصول إلى ألمانيا، وتُحاول الحصول على إقامة لاجئةٍ هناك. ويتواصل مع السينمائي الفلسطيني، رشيد مشهراوي، في رام الله، عبر "سكايب" وبريد الإنترنت، فيتفقان على أن يُرسل إليه صور فوتوغرافيةً ومتحرّكةً للناس في المخيم، محاصرين وجائعين، وشاردين، ومتعبين. يُنجز مشهراوي من المادة الوفيرة من نيراز فيلما جيدا، سمّاه "رسائل من اليرموك". وينظّم في متحف محمود درويش في رام الله معرضا من تلك الصور، فيكون حدثا فلسطينيا فنيا طيبا. 

تلك الأسئلة أعلاه مفرطةٌ في منطقيّتها، غير أن أرطال البلاهة فيها، في الوقت نفسه، غزيرة. ذلك أنها تتعلّق بسلطةٍ حاكمةٍ في دمشق تنعدم لديها أي حساسيةٍ بشأن الموت ومن يموتون. خرج نيراز من مخيم اليرموك لمّا عبر إليه مسلحون من "داعش". خرج وفي ظنّه أن في وُسعه أن ينجو، وأن يعيش، وأن يسافر، وأن يحكي عن "بشرٍ لهم أحلامُهم وأمانيهم بعيشٍ أفضل"، كما قال مرةً عن الناس الذين ينتسب إليهم هناك، في المخيم، "نحن بشرٌ تنهار حياتنا أمام أعيننا". ولكنّ للجلاوزة المتسلطين على عباد الله في سورية رأيا آخر. اختطفوا نيراز قبل عامين وسبعة شهور وبضعة أيام، ثم غابت أخبارُه، حتى ذاع الأسبوع الجاري نبأ مقتله تحت التعذيب. وحالُك إذا سألتَ: لماذا وكيف، كما حال رشيد مشهراوي عندما يسأل نيراز، لمّا قضى أخوه الأوسط، في واحدةٍ من جولات الفتك التي يستمر فيها النظام في دمشق، كيف صار هذا... يجيب نيراز إن لا أحد (هنا) يموت بسببٍ، وعندما يموت أحدٌ ليس مهما أن تعرف كيف مات، ولماذا.
إذاً، يجيب نيراز سعيد نفسُه عن الأسئلة البلهاء أعلاه، لماذا خطفوه، ثم حبسوه، ثم عذّبوه، فأماتوه؟ أما لمن أراد أن يتفلسف، فيقول إن نظام الأسد إنما يُعاقب بالموت من يوثّق جرائمه بالصورة، فله أن يقول ما يشاء، غير أن شذوذ هذا النظام في ضرب الأسواق والمستشفيات والمساجد والكنائس، وجموع الناس في الميادين والشوارع، وكذا في قتل مخطوفين في سجونه، لا ييّسر وجاهةً للاجتهاد المذكور، فالمحسوم أنه نظامٌ يقتل وكفى. والجارح هنا أن هذا المحسوم يورّطنا بالانصراف عن نيراز إلى صورِه، بتركِه إلى من التقط لهم الصور، فشاهدنا أرواحَهم المنتهكة، وأبدانَهم المستنزفة، وعيونَهم الساهمة في اللاشيء. وقد أنجز الشهيد الذي قصف المجرمون عمره عن 26 عاما صور ثقيلة الإيحاءات، وبليغةً في ما تنطق عنه.
وحده فيلم "رسائل من اليرموك" يعرّفنا إلى نيراز سعيد. لا أحد عرف هذا الشاب، وحدّثنا عنه. وخطيبتُه لميس الخطيب تُحدّث رشيد مشهراوي في الفيلم عن رهافته، عن أشواقهما إلى أن يُحرزا حياةً أخرى، هي التي لا تسجّل الموظفة الألمانية لها بلدا، في توثيق حالتها مهاجرةً، فلا دولةَ اسمُها فلسطين. وهو، نيراز، معنيٌّ بأن يحكي عن صباحاته وأماسيه في أزقة المخيم وشوارعه وحواريه. والظاهر أنه صاحب خيالٍ شديد الجرأة، خيالٍ محاربٍ وجسور، ما يتبدّى في تسميته ثلاثة أطفالٍ التقط لهم صورةً ملوكا. صنعها بالأبيض والأسود، وبدت ذات كثافةٍ عاليةٍ في مضامينها القاسية. و"الملوك الثلاثة" هم أطفال لاجئون إلى "اليرموك" من مخيم آخر قريبٍ منه (!)، مصابون بمرضٍ لا يعرف نيراز اسمَه، تسبّب به الجوع ونقصُ التغذية، كان مفترضا أن يغادروا المخيم إلى دمشق للعلاج، غير أن النظام لم يسمح بذلك. تُخفي الصورة هذه التفاصيل، غير أنها، لأنها من داخل اليرموك، تُشيع تفاصيل أخرى أشدّ وقعا.
ماذا عن صورة موت نيراز سعيد معذّباً في سجنٍ شنيع، هل من يتخيّلها؟ هل من يرسمها؟ هل من يسمّيه ملكا؟
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.