من يدرس تلك الميديا بشأن المونديال؟
لا تزيّد في نعت تغريدة صحافي في صحيفة بيلد الألمانية، تضمّنها تقرير لها من دون أن تعقّب عليها، بأنها تنتسب إلى السفاهة، فقد استهجنت رفع المنتخب المغربي في مونديال قطر "علم دولةٍ غير موجودة تريد رمي سبعة ملايين يهودي في البحر". ويجوز، على محملٍ آخر، اعتبارُه جنونا وصفُ تقرير قناة تلفزيونية ألمانية عدم ترحيب المشجّعين العرب بالمراسلين الإسرائيليين الذين وفدوا إلى قطر لتغطية المونديال بأنه "عنفٌ معادٍ للسامية". وفي وسعنا، محقّين، رمي تقارير وفيرة في الميديا البريطانية والألمانية والفرنسية (خصوصا)، افتعلت ما افتعلته بشأن استضافة قطر كأس العالم، بالحماقة وانعدام النزاهة وغياب الموضوعية. ولكن الوقوف عند هذا ليس مُجديا في العمق، وإنْ من الضروري، بداهةً، رميُه بما يستحقّ، وكشف ما انطوى عليه من بؤس، فالملحّ أن ينصرف جهدٌ تحليليٌّ علميٌّ إلى تفكيك المنظور المتوطّن في وسائل الإعلام تلك، ويجعل غالبية تقاريرها وتغطياتها وكتاباتها تفتقر إلى أبسط شروط المهنيّة الصحافية. وتتبنّى هذه المقالة مطلبا من أهل البحث والأكاديميا في الدراسات والسياسات الإعلامية، سيما المختصّين في "تحليل المضمون"، أن ينشغلوا بدرس ما تراكم في الميديا الغربية بشأن مونديال قطر، في غضونه وعشيّته خصوصا، ليصير ممكنا أن نعرف الإجابات التي تفسّر كل هذه المساحات من الجهل بالعالم العربي والإسلامي.
الجاليات العربية كثيرة في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا (وغيرها)، ولبعضها تمثيلاتٌ يُفترض أن تعرف مسؤولياتها الثقافية. وفي الجامعات الغربية أقسامٌ وكلياتٌ للدراسات العربية والإسلامية والشرقية، تَخرّج منها باحثون ومثقفون وأساتذة عديدون. وثمّة أجيالٌ من سفراء ودبلوماسيين غربيين عملوا في البلاد العربية... أليس لهؤلاء أي تأثير على وسائل الإعلام في بلادهم، من أجل تصحيح مغالطاتٍ يغيب عن كثيرٍ منها أدنى منطق (عدم احترام قطر ذوي الإعاقة مثلا!)، وبهدف التخفّف من الموروثات والتنميطات الاستشراقية الكلاسيكية؟ ولمّا لوحظ أن تصريحاتٍ للمسؤولين الغربيين غايرت مضامين متحاملةً في الصحافة في بلدانهم بشأن قطر والمونديال (باستثناء وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر)، فإن هذا من جملة موضوعاتٍ تحتاج إلى الفهم، فهل يعودُ الكلام الحسن للرئيس الفرنسي ماكرون ووزير الخارجية البريطاني، جيمس كليفرلي، وغيرهما، عشيّة افتتاح المونديال، إلى استيعاب صانع القرار أهمية المصالح في العلاقات بين الدول، في وقتٍ لا يستطيعون التدخّل في عمل الصحافة؟ وتستحقّ بحثا الفروق الظاهرة في منطوق الصحافات الأوروبية (الألمانية والفرنسية والبريطانية خصوصا) ومنطوق الصحافة الأميركية التي بدت غير منشغلةٍ بالتعريض بدولة قطر واستضافتها المونديال، وإنْ حضرت في بعضها تعبيراتٌ استكثرت على منتخباتٍ عربيةٍ الأداء الطيب في الملاعب.
يُخبرنا أصدقاء ومعارف مقيمون في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا أنهم لمسوا لدى شعوب هذه البلدان عدم احترامهم صحافة بلدانهم في حملاتها العدوانية ضد قطر، وقلة اكتراثهم بالضجيج الإعلامي الذي أريد من بعضِه مقاطعة متابعة المونديال، بحججٍ لم تبدُ مقنعةً لدى الجمهور الأوروبي العريض، الذي لا يرى قضية المثلية (مثلا) كونيةً تستحق ذلك الحماس الفادح في وسائل الإعلام. ولقد تبدّى، عيانيا، أن استقبال هذا الجمهور (سيما في ألمانيا) تلك المضامين اتّصف بالرفض أو التحفظ أو قلة الاهتمام. ويتطلّب التحقّق من صدق هذه الانطباعات التي ارتسمت لدى عربٍ كثيرين مسوحا واستطلاعات. والمؤدّى هنا أن هذه المسألة واحدةٌ من شواغل دراساتٍ من الأهمية أن ينكبّ على إنجازها أهل الكفاءة في حقل الاتصال الجماهيري.
ليس من التسرّع أن يقال هنا إن حكوماتٍ وشركاتٍ وأنديةً واتحاداتٍ رياضيةً وأوساطا فنية و... أوروبيةً كانت في غير الوادي الذي انحدرت إليه وسائل الإعلام الأوروبية تلك في ذبحها المهنية الصحافية، وفي تجنّد عاملين عديدين فيها، ببواعث ذاتيةٍ محضةٍ أو بتأثيرات لوبياتٍ غير منظورة، لاستهداف قطر واستصغار أهليّتها في استضافة المونديال الذي جاء مثيرا وبديعا، وكان الأجمل من كل سابقيه، بشهادة ملايين تابعوه، حضورا إلى قطر نفسها أو على الشاشات في كل العالم.
من يستجيب للدعوة إلى إنجاز دراساتٍ تجيب عن حزم من أسئلة الشأن الإعلامي في غضون مونديال قطر؟