من يتذكّر "الدكتور عصفور"؟

09 فبراير 2015

عين ... عمل ل (جان سترومي)

+ الخط -
سقى الله تلك الأيام، لمّا تمكّنت فيها المخابرات المصرية من زرع أربعة ميكروفانات تنصّت في مقر السفارة الأميركية في القاهرة، بإشراف ومتابعة من جمال عبد الناصر في 1968، واستعانةٍ بخبراء من ألمانيا الشرقية. وسميت تلك العملية التجسسية المثيرة "الدكتور عصفور"، وكانت "مخاطرةً محسوبة"، بحسب محمد حسنين هيكل، ويسّرت معلوماتٍ ثمينة للقيادة المصرية. وبعد عام من رئاسته، أنهى أنور السادات تلك العملية الاستخبارية التي تأتي إلى البال، ونحن في غضون أسى كثير من الركاكة الراهنة في المؤسسة الحاكمة في مصر، فثمّة من زرع جهاز تنصت في مكتب وزير الدفاع السابق، عبد الفتاح السيسي، لتتسرب ثرثرات بين مدير هذا المكتب، واسمه اللواء عباس كامل، (أو عباس يا كامل، بحسب تباسط رئيسه السيسي معه) وضباط ومسؤولين كبار، فتنفضح عجائب كثيرة عن دولةٍ، يزهو أصحاب المباخر إياها بالتغني بها، دولة مؤسسات وقانون، ودولةً لها أمن قومي أيضاً.
من الذي يتنصّت في وزارة الدفاع المصرية، ويتجسس على مكالمات مدير مكتب الوزير؟ يسلينا أن نتحزّر إن كان الذي يفعل هذا جناحٌ ما في جهازٍ ما في الدولة المصرية، أم شخصٌ متنفذ يتصيد للسيسي وجماعته، أم "إخوانيون" استطاعوا تجنيد فلان أو علان. قال زميل مصري إنَّ على الدولة أن تحقق في هذه الخيانة العظمى. ولنا أن نخبره أن الخيانة صارت الأصل في دواليب السلطة في مصر، على ما يبدو، بالنظر إلى متوالية خيانة الحق في القصاص من القتلة والفاسدين، ناهيك عن خيانة الأمانة في الحكم وإدارة الدولة، حين تُختطف بتدبيرِ مَن أَصابعُهم منظورة وخفية، ظاهرة ومستترة، في خرائط طرق وفي انتخابات وقرارات محاكم عليا، وما إلى ذلك من تنويعاتٍ في مشهد مصري تعيس.
كشف "الدكتور عصفور" لجمال عبد الناصر عن تفكير أميركي باغتياله، وكانت جرأةً من الزعيم الراحل أن يُقدم على تلك المغامرة، المشروعة في ما نحدس، بالنظر إلى تعدد أوجه حروب التجسس، وعملياته التي صرنا نعرف من جديدها أن الولايات المتحدة تتجسّس على فرنسا وإيطاليا وتركيا واليابان، ما سوّغه باراك أوباما بقوله إن كل جهاز استخباري يريد معلومات ليست في الصحف والتلفزات. ومن التسريبات النشطة من مكتب عباس كامل في وزارة الدفاع، صرنا نعرف مقادير الاستخفاف الذي يقيم في مدارك عساكر مصر الحاكمين تجاه صحافيين مستخدمين لديهم، ولدى أجهزة أمن توظفهم في كل وجهةٍ مبتغاة. وكذلك مقادير الاستهانة في أفهام هؤلاء تجاه قضاةٍ صارت أحكام المؤبد والإعدامات مضجرةً من فرط محبتهم لها. ويعد أكثر إثارةً من هذا وذاك، وغيرهما، أن الفوقية المتورمة لدى السيسي، والتي لا تسندها انتصارات روميل أو مونتغمري، تجعله يرى المال في دول الخليج "زي الرز"، ما يجعل طبيعياً أن يُعطى جيش مصر من هذا الرز ما يطلب.
سقياً لحال مصر هذا، إذن. وسقى الله على أيام "الدكتور عصفور". يسوّغ قولنا هذا، هنا، أن الذي تنصّت على عباس كامل ليس مقتنعاً بأهليّة عبد الفتاح السيسي مديراً سابقاً للمخابرات الحربية. كان في منصبه هذا لمّا تسللت عناصر من "حماس" من غزة إلى سجونٍ مصرية، واقتحمتها ثم حررت محتجزين فيها، كان بينهم محمد مرسي وإخوان كثيرون، ثم لم يُقبض عليهم. وذلك على ذمة ما يُقال في قضيةٍ منظورةٍ أمام القضاء المصري إياه. ترقّى الرجل، بعد ذلك الاختراق العجيب، إلى منصب رئيس جمهورية، ثم صار مدير مصلحة السجون، محمد إبراهيم، وزيراً للداخلية، ولا يزال. كان هذا تفصيلاً، لكنه يعضد كل حديثٍ عن قاعٍ، تروح إليه مصر، لشديد الأسف، ونبحلق فيه ونتعب، ونحن نسمع ثرثرة الرز مع عباس يا كامل، وإن نتذكّر، في الأثناء، أيام "الدكتور عصفور".
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.