من وحي فيلم "المعرّي .."

27 أكتوبر 2019
+ الخط -
ينبغي أن يكون العنوانُ الحقيقي لهذه المقالة "دفاعاً عن جنون العقل"، ففي ذروة الهزيمة التي تعرّضَ لها العقلُ العربي أمام الديكتاتوريات الفاشية، وتشكيلة الحثالات المليشياوية القومية والدينية والمذهبية، ينبري بضعةُ "ناجين" من المذابح ليمجدوا رمزَ العقل البشري عبر العصور، أبا العلاء المعرّي. اثنانِ أهلُ الأرض.. وكَذَبَ الظنُّ لا إمامَ سوى العقل. الناجون يمجّدون المعرّي، يصنعون له تمثالاً وزنُه ثلاثةُ أطنان، ليضعوه في إحدى ساحات بلد الحرية والفكر باريس، ويبقى أمانةً لدى بلدية باريس الثانية حتى تتحرّر سورية من الاستبدادين، العسكري والديني، ووقتها يعود، برفقة السوريين الباقين على قيد الحياة، إلى مسقط رأسه المعرّة. 
مجانين، حالمون، واهمون، نحن. فكرةُ صنع تمثال للمعرّي، بحد ذاتها، مجنونة. والظنُّ إن الاستبداد في الشرق يمكن أن ينتهي ضربٌ آخر من الجنون. مَنْ سيسمح لكم (لنا) بإعادة المعرّي إلى دياره، وبلادُنا تتطور إلى الخلف، كما قال المعرّي نفسه في "رسالة الغفران" على لسان شاعر اخترعه من بنات أفكاره اسمه الجحجلول: صَلَحَتْ حالتي إلى الخلفِ حتى/ صرتُ أمشي إلى الورى زَقَفُونَهْ.. ما يؤكد لنا أن "صلاح الحالة إلى الخلف" ليس ضرباً من السخرية، بل هو حقيقة، أن أهل الفكر والأدب احتفوا بالمعرّي في أربعينيات القرن الفائت، وأقاموا له في المعرّة مهرجاناً عظيماً حضره أكابر الأدباء والمفكرّين العرب، بضمنهم طه حسين صاحب كتاب "مع أبي العلاء في سجنه"، وصنع له الفنان فتحي محمد تمثالاً حجرياً سنة 1944.. وفي الثالث عشر من فبراير/ شباط 2013، دخل رجالٌ متخلفون كسروا تماثيل تدمر، وقطعوا رأسه.
قبل هذا بأكثر من ثلاثين سنة، تسللَ رجلٌ يحمل فأساً إلى ساحة هنانو في مدينة إدلب، قطع رأس تمثال إبراهيم هنانو، بغية كسب الثواب. تقول له يا أخي هذا زعيم وطني، حاول الدفاع عن استقلال بلده، تمثالٌ ليس للعبادة، وإنه هو رمز لمقاومة الاحتلال. يقول لك: بل إنه صنم يُعْبَد ويستوجب التكسير. .. لا تعالج. إنه الجنون. هستيريا التخلف. النحات الكبير، عاصم الباشا، أكثرُنا استعداداً للجنون، والدليل أن إبداع تمثال لرأس المعرّي قد اكتمل بين يديه أخيراً. إذا جن ربعك يا عاصم عقلك لا ينفعك. سألوه: هل تبدع تمثالاً للمعرّي؟ قال لهم، بقليل من التفكير، هَيَّا.
لم يَعْتَدْ عاصم، وهو مبدعُ مئاتِ التماثيل، على الاستعانة بأحد. لكنه هذه المرة استعان بالفنانة مار مارتين التي كانت طالبته، وبالفنان الممثل جلال الطويل. العمل كبير، طويل، شاقّ، يحتاج إلى مَن يساعد عاصماً النحات النحيل الذي لا يشيخ في ما يتطلب جهداً عضلياً مرهقاً. وعاصم يفاجئ مساعديه قبل غيرهم بظهور الشكل الفذّ لشاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء، المنحوت من قلب الكتل الصلصالية. قالت مار مارتين عن المعرّي: في البداية لم أحبه، لم يكن فيه روح، ولكنني فوجئت به في الأسبوع الأخير وقد دبّت فيه الروح. انظر إلى هذه الورشة المترامية الأطراف، تأمل القاعدة الحديدية التي ستحمل الأطنان الثلاثة، إلى قطع الحديد، والصلصال، ومواقد النار. يقول عاصم: أصابعي تقرضتْ من الشغل. ويقول: هي فكرة الفنان فارس الحلو. وفارس موجود في المشغل، وفي الفيلم، وفي كل مكان.
سينتصب تمثال أبي العلاء الذي أمضى سنوات عمره الـ 86 في البحث عن ضالَّاته الثلاث: الفكر، الحرية، العقل.. شامخاً في البلاد التي كانت، في عصره، محكومةً بمحاكم تفتيش تقتلُ كل ذي عقل أو رأي. تحدّث الروائي عبد العزيز الموسى عما يشبه محكمة تفتيشٍ كانت منعقدة في القاهرة يومذاك، وحكمت على المعرّي بالموت. قال: المعرّي كان أكبر من عصره. ونقول: وأكبر من العصور الأخرى، تحصيلاً لحاصل.
أخيراً: فيلم "المعري .. فصل من سيرة الأمل" من إنتاج شركة ميتافورا ومؤسسة "ناجون"، وعرضه على شاشته أخيرا تلفزيون العربي، أخرجه هشام زعوقي.
دلالات
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...