من قَتَلَ أسمهان؟
العنوان أعلاه مضلّل، مُخادع، لأنه يحسم إنّ صاحبة الصوت الذهبي، المغنّية السورية آمال الأطرش، المشهورة باسم أسمهان، قد قضت قتْلا عمْدا، في غرق السيارة التي كانت تقلّها، وصديقةً لها، في مصيف رأس البرّ في مصر على ساحل البحر المتوسط، في مثل يوم أمس، 14 يوليو/ تموز، العام 1944. يوصَف الحادثُ بأنه غامضٌ، ملتبسٌ، ليس فقط لأن سائق السيارة أنقذ نفسَه، ونجا، وإنما أيضا لأن أسمهان تعرّضت، قبل واقعة موتها هذه، إلى ما ذاع أنهما محاولتا اغتيال، واحدةٌ في القدس، لمّا كادت سيارةٌ كانت فيها تنقلب لِعيْبٍ في الفرامل، وأخرى في بيروت، لمّا ضلّت رصاصةٌ استهدفتها، على ما ذكر بعض من كتبوا في سيرتها، وهؤلاء كثيرون، ولم يجر تحقيقٌ جدّيٌّ في أيِّ من الحادثتين. ومبعث الشكوك في أن "تدبيرا" ما أنهى حياة الشابّة، صاحبة الوجه الجذّاب، عن نحو 30 عاما (قيل 27 عاما وقيل 33 عاما)، أنها اشتغلت، على ما "يحسِم" من دوّنوا سيرا لها اختلط فيها الصحّ والغلط، الموثوق وغير الموثوق، مع المخابرات البريطانية والفرنسية والألمانية (وقيل مع الوكالة اليهودية أيضا)، وكانت شهيّتها للمال كبيرة، فراحت ضحيّة "مراوغاتها" معهم. والمسلسل التلفزيوني "أسمهان" (إخراج شوقي الماجري، 2008) ألمح، (تنازع ثلاثةٌ على إشهارهم كتابتَه، أحدهم نبيل المالح)، إلى "مسؤولية" المخابرات البريطانية عن حادثة الغرق الغامضة. وقد أفيد، في غير مصدر، بأن تلك المخابرات "شغّلت" أسمهان، لتعمل على تحويل ولاء زعامات الدروز في جبل العرب لقوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وقد كانوا، بحسب من كتبوا هذا وذكروه، يُؤثِرون حكومة فيشي الفرنسية العميلة للألمان. وإلى قصصها مع أجهزة المخابرات في ظروفٍ حسّاسة، وإلى ما كُتب عن حكمٍ بالإعدام عليها أصدرته المخابرات الألمانية، فإن أقاويل ذاعت عن "تدبير" الملكة نازلي (والدة الملك فاروق) حادث الغرق، الملغز، "غيرةً" منها بسبب ما شاع عن علاقة حبٍّ جمعت المغنّية، ذات العينين الخضراوين والصوت الناعم، مع رئيس الديوان الملكي، أحمد حسنين باشا، الذي كانت الملكة تهواه، وقضى في حادث سيّارة (هل قتله أحدٌ ما أيضا؟)، شهورا بعد ميتة أسمهان.
ولكن، ما بالُنا، نحفل بحدّوتة غرق قبل 78 عاما، فيما أوطانٌ عربيةٌ، في الراهن الذي نعيش، تغرقُ في ضياعٍ مشهود، وفيما لا يؤخّر ولا يقدّم في شيءٍ إنْ "حسَمنا" إنه حادثُ قضاءٍ وقدرٍ أو إنه قتلٌ مدبَّر، ذهبت فيه امرأةٌ ضجّت حياتُها القصيرة بالوفير المثير من تفاصيل صاخبة، منها محاولاتُها الانتحار ثلاث مرّات، ومحاولة زوجها أحمد سالم (الأخير بعد زواجيْن سابقين) قتلها؟ كان طريفا ممن كتب، مرّة، يطلب إعادة فتح ملف حادث رأس البرّ ذاك، والتحقيق فيه مجدّدا، من أجل "حسم" الحقيقة، وتعيين المسؤوليات بشأن ما جرى للمغنّية التي قالت عنها والدتُها إنها لم تعرف الحب يوما، وقال عنها عارفون إنها كانت شخصيةً مركّبة، معذّبة، شديدة الطموح، مهجوسةً بالتمرّد والخروج على مواضعات العشيرة والعائلة، مضطربة وقلقة. والقول عندي إن حوادث الاغتيال والقتل الغامضة ستبقى إلى الأبد، غالبا، غامضةً، منذ موت توت عنخ آمون، عن 19 عاما، قبل 3346 عاما، والذي يشيع شبه إجماعٍ إنه قضى اغتيالا (وإنْ يرى زاهي حوّاس إن الملاريا سبب موته). وتلك ميتاتُ ياسر عرفات وهواري بومدين وجمال عبد الناصر وسعاد حسني وأشرف مروان وعبد الحكيم عامر ووديع حدّاد وغازي كنعان وصبري البنا (وغيرهم) ما زال غير مقطوعٍ بأنها طبيعية. ولا غضاضة، إذن، في أن تنضمّ إليهم آمال الأطرش.
ولكن، في الوُسع أن يكون الجواب على السؤال في العنوان أعلاه ‘ن أسمهان هي من قتلت نفسَها. .. كانت على موهبةٍ نادرةٍ، وصاحبة صوتٍ أوبرالي (أسطوريّ بحسب محبّين له)، ولكنها لم تعتنِ تماما بأن تكون مغنيةً. انشغلت بطموحها أن تكون صاحبة حضورٍ وأدوارٍ بين أهل السياسة ونجوم المجتمع. لم تحبّ أن تصير فنانةً محترفة. لها 33 أغنية، من ألحان شقيقها فريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب ورياض السنباطي ومحمد القصبجي وزكريا أحمد (وآخرين؟). كانت تشعر بأنها أميرةٌ أكثر منها مغنّية. كتب عنها الصحافي اللامع في زمنه، محمد التابعي، (اقترنت معه بخطوبةٍ لم تكتمل بزواج) في كتابِه عنها، "صوتها كان كفيلا بأن تُبهر به الدنيا، لو عرفت كيف تحكُم نفسها، وتعيش كما يجب أن تعيش بعيدا عن التدخين والشراب". وكتب من كتب إن أسمهان لو أخلصت جدّا لصوتها "الخارق" لغيّرت في الغناء العربي، بدل استنزاف موهبتها ونفسها ..