من ذاكرة شاعر لبناني احترف كرة القدم
يُخبرنا الشاعر والمترجم والأستاذ الجامعي اللبناني، فوزي يمين (1967)، بأن كل ما كان يريده، إبّان كان لاعبَ كرة القدم (في المنتخب الوطني لبلاده، وفي نادي السلام في فتوته، وفي نادي الحكمة في شبابه) أن يلعب. يكتب "... ظللتُ على هذا الحال عشرين سنة تقريبا، مخطوفا باللعب، ومتيقّنا أن الكرة، كالبيت الشعري، يتحكّم بها إيقاعُها، شيطانها الخفيّ، والتي بدا أني كنتُ، بطبيعتي، قادرا على الإمساك بها، أمتصّها، أراقصها، ألتفّ بها على نفسي وعلى الآخرين، ملقيا السحر في عيون المتفرّجين، مثلما ألقي أبياتي الشعرية في آذان المستمعين". يُخبرنا بهذا في النصّ الذي خصّ به كتاب "سحر كرة القدم" الذي أصدرته "العربي الجديد". أما في كتابه اللافت، والجديد عربيا في فن السيرة الذاتية، "استراحة بين شوطين .. عن كرة القدم أثناء الحرب اللبنانية" (منشورات المتوسط، ميلانو، 2022)، فيُخبرنا لا عن مراقصته الكرة وحسب، لمّا كان لا شيءَ يدفعه إلى اللعب إلا شغفُه باللعب، على ما كتب، وإنما أيضا عن خاصٍّ وعامٍّ وفيرَيْن في مقطعٍ من سيرته، ومن سيرة لبنان إبّان الحرب إياها (1975 – 1990)، وأيضا عن كرة القدم لعبةً تحتارُ بشأنها الكاتبة الفرنسية مارغريت دوراس "إن كانت شيطانية أم إلهية؟"، فيجيبها اللاعب النجم الفرنسي، ميشال بلاتيني، "إنها لعبة محبوبةٌ، لأنه على أرضها يتساوى الجميع دون استثناء، ولأنه في الأخير، لا حقيقة لها". وعلى قلّة صفحاته، نسبيا، ومع مبناه في صيغة يومياتٍ، تبدو مستدعاةً، بحرارةٍ وحنيْنٍ ظاهريْن، يطوف الكتاب على غير أمر وأمر، غالبا بتمريراتٍ غايةٍ في البساطة الرائقة، ليبدو، في مطرحٍ ما، ليس فقط مرجعا في معرفة فوزي يمين اللاعب الذي كان، والشاعر وأستاذ الأدب الذي صار، وإنما أيضا في معرفة تاريخ كرة القدم، وبعض ما قيل وكُتب في الشغف بها، وأيضا في معرفة الذي حلّ بها في لبنان في غضون انقسامٍ أهليٍّ طائفيٍّ في أثناء الحرب، طاول الأندية واتحاد كرة القدم لمّا صار اتحاديْن، وصارت في البلد بطولتان.
يُحرز قارئ كتاب "استراحة بين شوطين .." فائضا من المتعة في صُحبته مع فوزي يمين طفلا ويافعا وشابا، محبّا كرة القدم التي صار لقبُه في لعبه في خطّ الوسط "المايسترو"، بعد أن لعبها في الحارة في زغرتا، وكان يشتري مجلات الرياضة ليتأمل في صور اللاعبين، الألمان الذي شغُف بهم، ثم الهولنديين، ثم استبدّ به الولع بمارادونا. يسأل والدتَه في صغره عن قدّيسين لهم صورهم في البيت: "هل يحبّون كرة القدم، هل يختلسون النظر إلى صور اللاعبين المعلقة فوق سريري، عندما لا نكون في البيت؟". ومن اليوميّ الشخصيّ إلى فضاء الحارة والبلد الذي يصبح في حربٍ، ويتعرّض خال الفتى فوزي في أثنائها لمحاولة اغتيالٍ، إلى العالميّ والكونيّ، حيث متابعة المونديالات، وفي البيْن بيْن ثمّة المباريات التي يشارك في بعضِها الكاتب اللاعب الذي نجول معه في هذه التفصيلة وتلك. ثمّة المباراة النهائية لكأس لبنان "بيننا وبين الأرمن". وثمّة التي يقول فيها فوزي لرفيقه في خط الوسط قبل صافرة البداية "هذا ما تتطلّبه اللعبة: رأس فارغ". وبعد ضحك الاثنين، "لا وقت للهو. التركيز عالٍ وتام، خصوصا في الدقائق الأولى من المباراة التي تكون عادةً جسّا لنبض الفريقين. من يتحكّم بالكرة؟ من يفرض إيقاعه؟ من يأخذ المبادرة، ويسجّل قبل الآخر؟".
من العسير إيجاز ما التمّ في الكتاب من أفكارٍ تعلّقت بكرة القدم ثقافةً وحياة، شغفا وولعا، وأكثر من مسألة حياة أو موت، على ما قال مدرّب "ليفربول" السابق، بيل شنكلي، وما جاء عليه في خصوص لبنان الذي يقاتل لاعبو كرة القدم فيه من أجل الغبطة وتسديد الأهداف، ولكن "الذي يفوز في الحرب يفوز في الرياضة، وهكذا ينضمّ فريقنا إلى اتحاد "الغربية" مع فريقي الراسينغ والحكمة، وفريقي الأرمن الهومنتمن والهومنمن من "الشرقية". ويكون التمثيل الطائفي، على الصعيدين، السياسي والرياضي، هو سيّدَ الموقف، بلا منازع".
كتابٌ في مخاطبة الأنا أناها، في مناوشة الماضي بإطلالةٍ عليه وحسب، عندما يخصّ حربا أهلية. وعندما يكون ماضي اللاعب الذي تزوّج تاليا وامتهن التعليم في المدارس فالجامعة، لا تكون المناوشة إطلالةً وحسب، وإنما سباحةً في نهرٍ لا يجفّ من تداعياتٍ يبدو مُؤسيا أن يكون ختامُها أن فوزي يمين صار يتابع اللعبة في التلفزيون ليلا، بقدر ما يسمح له وقتُه، وحدَه أغلب الأحيان، ويغفو قبل أن تنتهي المباراة.. على ما يخبرنا في تلويحةٍ أخيرة، في كتابه الرهيف.