من حكايات شهرزاد
قالت شهرزاد: بلغني، أيها الملكُ السعيد، ذو الرأي السديد.. أن فلاحاً بسيطاً كان يعيش في قريةٍ قريبةٍ من البادية، عثر مصادفةً على فرسٍ أصيلة، صهباء غرّاء، متوحشة نافرة. وكانت جائعةً، فاحتال عليها بطعام لذيذ، ومأوى دافئ، ومعاملة حسنة، فأسلمته قيادها مُزْمِعَةً تقطيع الأرسان، وتخريب المكان، إنْ هو أخلّ بوعده والأمان.
جلب الفلاح الفرس إلى حظيرته، واشترى لها سرجاً، معرقاً من أفخر ما كان يصنع في تلك الأيام، وسأل عن أصلها وفصلها، وحسبها ونسبها، وكانت دهشته عظيمةً، حينما وجد أنها من صنفٍ نادر من الخيول العربية، فراح يبحث لها عن حصانٍ لا يقلّ عنها أصلاً وفصلاً ليستوطئها. وهذا ما كان بالفعل، فارتاح فؤاده، إذ ولدت له، بعد انقضاء الأجل المكتوب، مهراً رائع الجمال، فائق الخصال.
وشبّ المهر وارتفعت قامتُه، وكانت عزيزةً كأبويه هامته..
وراح يومٌ، جاء يوم... سحب الفلاح المهر إلى السوق، ليبيعه، ويرجع بالخير العميم إلى الدار، فتجمّع الزبائن حوله، سائلين عن أصله وفصله، فشرح لهم وأسهب، وبالمديح أطنب.
وفجأةً، سأله أحدهم: ولكن، كم عمره؟ قال الفلاح: عمره سنتان. قال الزبون: لا نصدّق، حتى نرى أسنانه. فالسن تعرف من السن. وتقدّم منه، ليفتح فمه ويرى أسنانه، فنتر المهر رأسه نترةً، أوقعت الزبون على الأرض، فتقدّم منه آخران، وشرعا يشدّان رقبته إلى الأسفل، فاستنفر، وتعاطى على قائمتيه الخلفيتين، واستكبر.
ابتعد الجمع عنه، ثم عادوا إليه، وفي أيديهم كل أدوات التفاهم مع أمثاله من عصيٍّ وسياط ومسلاتٍ وحبال، وصاحب المهر يعاونهم، والمهر يقوم ويقعد، وهكذا، يا مولاي، حتى تمكّنوا منه، وفتحوا فمه، وظهرت أسنانه البيضاء اللامعة كاللبن الحليب.. وإذ ذاك أمسك صاحب المهر بيد الزبون وصافحه، وتساوما عليه، حتى تمت الصفقة.
وكان الرجل الذي اشترى المهر خسيساً، نصّاباً، واسع الذمة، فركب المهرَ، وشرع ينخسه بالمسلة في مطلع عنقه، فقبّ المهر من غيظٍ ومهانة، وأعطى ساقيه للريح، وانطلق ينهب المسافات في لمح البرق، يريد أن يوقع الرجل الخسيس عن ظهره ويدقّ عنقه، لكن الخسيس تشبث بظهره، كما يتمسك العلق بالحيوان والنبات، وأطلق لسانه مستنجداً بالعابرين، فأنجدوه بأن ضربوا حول المهر حلقةً محكمةً، وتمكّنوا منه.
قال شهريار: ولكن، كيف كان ذلك؟ كيف يساعدون الرجل الخسيس، وهم لا يعرفون الحكاية، ولا يدرون هل الحق مع المهر أم مع الرجل؟
قالت شهرزاد: سألت نفسي، يا مولاي، السؤال نفسه، وفكّرت فيه طويلاً، فلم أجد له جواباً معقولاً.
قال شهريار: يا لها من قصةٍ مشوّقة. أكملي.
قالت شهرزاد: فغضب الرجل الخسيس من تصرّف المهر غضباً شديداً، وسحبه من رسنه إلى السوق، وعرضه للبيع، مضيفاً إلى الصفات الرائعة التي سمعها من الفلاح صفاتٍ أخرى، اخترعها من خياله.. وفجأةً سأله سائل عن عمره. ومرة أخرى، التمّ الناس حول المهر، ليفتحوا فمه، فأبى وتمنع، وشبّ، وتعاطى، وترفع، لكنهم عالجوه بالطريقة السابقة نفسها، حتى أجبروه على فتح فمه.
وباعه الخسيس لنذل، والنذل لمجرم، والمجرم لسفاح، والسفاح لأعجمي، والأعجمي لمواطن، وفي كل مرةٍ كانوا يرغمونه على فتح فمه بالقوة.
هل يحزر مولاي الملك السعيد ذو الرأي الرشيد ما حلّ بذلك المهر الأصيل؟
أطرق شهريار مفكراً لحظاتٍ، ثم أعلن عجزه عن الإجابة، وقال لشهرزاد أن أسرعي بإعطائي الجواب، حتى ننادي السياف فيقطع رأسك وننتهي منك ومن حكاياتك.
قالت شهرزاد: أصبح المهر كلما اقترب من السوق، أو رأى جماعةً من الناس متحلقين في مكان ما؛ يفتح فمه ويقترب منهم، عارضاً عليهم أسنانه البيضاء اللامعة كأنها اللبن الحليب.
وقد أحبّ الناس ذلك المهر العاقل، فصاروا يأتون صاحبه بأفراسهم، كي يأخذوا منه "بذرة"... وذات يوم يا مولاي..
وأدركت شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.