من تبعات الاحتجاجات الإسرائيلية
لوحظ في الآونة الأخيرة أن حملة الاحتجاجات في إسرائيل ضد استمرار حكم رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، والتي تقف وراءها حركات متعدّدة، تسببت في عدة تبعات، منها اشتعال أُوار جدلٍ لافتٍ بشأن جوهر التغيير الذي يجب السعي إليه، نُشدانًا لتلافي وضعية عامة توصف بأنها مختلّة، وجدت دولة الاحتلال نفسها في قبضتها، وجعلتها في أحسن الأحوال ديمقراطية ناقصة أو عرجاء أو مكبّلة بالأصفاد.
ولا يكلّف معظم المنخرطين في هذا الجدل أنفسهم عناء النبش في جذور قيام الدولة على أساس العقيدة الصهيونية، بل يقفزون عن تلك الجذور إلى مناقشة ما تلا قيامها من خطواتٍ تأسيسية عامدة، أفضت إلى ما هي عليه الآن، والأصح القول إنه ما كان لها أن تفضي إلا إلى ما آلت إليه. ومن أبرز تلك الخطوات يُشار إلى مسألة عدم إعداد دستور. ومعروف أن "وثيقة استقلال إسرائيل" أقرّت يوم 14 مايو/ أيار 1948 بأن يعدّ المجلس التأسيسي المُنتخب دستور للدولة حتى فترة أقصاها الأول من تشرين الأول/ أكتوبر من ذلك العام. وشكلت الانتخابات التي أجريت يوم 25 يناير/ كانون الثاني 1949 في حقيقة الأمر انتخابات للمجلس التأسيسي، لكنه عقد أربع جلسات فقط. وفي 16 فبراير/ شباط 1949، صادق المجلس التأسيسي على القانون الانتقالي، والذي حول نفسه من خلاله إلى الكنيست (البرلمان) الأول، وبما أن المجلس التأسيسي لم يقم بإعداد دستور، فالكنيست بات خليفة المجلس في هذه الوظيفة. واستمر الجدل بشأن الدستور إلى أن قرّر الكنيست الأول، يوم 13 يونيو/ حزيران 1950، قبول ما يسمى "قرار أو تسوية هراري". وبموجب ذلك، ألقيت على عاتق لجنة الدستور والقانون والقضاء البرلمانية مهمة إعداد دستور للدولة، يكون مؤلفًا من فصول متتابعة، يشكل كل واحدٍ منها قانونًا أساسًا، ويتم عرض هذه الفصول على بساط البحث في الكنيست، وإذا ما انتهت اللجنة من عملها تتحد جميع الفصول لتكوّن معًا دستور الدولة. وما زالت هذه المهمة مستمرة...
ما هي أهم الاستخلاصات التي تراكمت حتى اللحظة نتيجة هذا الجدل؟ أولها أن هناك إنكارًا عابرًا للأحزاب والحركات السياسية الإسرائيلية لماهية الدولة المدنية الحديثة النشأة. ووفقًا للقائلين بهذه الخلاصة، لا يجوز، بموجب تلك الماهية، رؤية الدولة أداة تنفيذية لجماعة إثنية أو جماعة ثقافية معينة. وبالتأكيد، لا يجوز رؤيتها أداة لديانة محددة. فمثل هذه الرؤى تتناقض بشكل مطلق مع المفهوم الذي يرى الدولة منظومة حكم سيادية، لا تخضع لأي منظومة خارجها، وملتزمة أولًا وقبل أي شيء بسلامة سكانها/ مواطنيها ورفاهيتهم، بغض النظر عن انتمائهم الديني أو الجنسي أو العرقي. والدولة ينبغي أن تكون مدنية لجميع مواطنيها.
ثانيًا، قبل سن "قانون القومية الإسرائيلي" (2018) وأكثر فأكثر بعد سنّه، لم تكن الأغلبية السياسية في إسرائيل، والتي يمكن أن تتغيّر بين انتخاباتٍ وأخرى، تعمل من أجل جميع المواطنين، بل فقط من أجل الأغلبية الإثنية على حساب كل الآخرين. وفي الواقع، لم تكن الدولة بحاجةٍ إلى مثل هذا القانون للعمل من أجل هذه الأغلبية، بل يعود سبب حاجتها إليه، بالأساس، إلى ممارسة القمع والتمييز حيال كل من هو غير يهودي (المواطنون العرب أو الذين جاءوا من دول الاتحاد السوفييتي السابق، وليسوا يهودا).
ثالثًا، طالما كانت إسرائيل دولة محتلة (ويقصد أصحاب هذه الخلاصة الاحتلال في أراضي 1967)، وترسل مواطنيها/ جنودها لقمع شعبٍ بأكمله، فإنها لا تستطيع امتلاك الشرعية التي يوفرها مصطلح "نظام ديمقراطي"، وهي دولة احتلال خلافًا لكل القوانين والشرائع الدولية.
رابعًا، النظام الديمقراطي تُقيّد فيه السياسة نفسها بواسطة دستور و/ أو ثقافة سياسية من ضبط النفس. وهذان العاملان غير متوفرين في نظام الحكم الإسرائيلي، حيث لا دستور ولا ثقافة سياسية تقوم على ضبط النفس، وهما سمتان بارزتان للديمقراطية.