من الحضرة أخترع أصدقائي وأخافهم

28 ديسمبر 2023

نجيب محفوظ يبتسم في مقهى في القاهرة يوم فوزه بجائزة نوبل للآداب (14/10/1988 فرانس برس)

+ الخط -

رأيت الصداقة عند نجيب محفوظ في روايته "قشتمر" هادئة جدا ومتّزنة جدّا ومدينية جدّا وعاقلة، وتعرف الخبايا والخصوصيات والتراتب الطبقي بمهارة، وتلتزم المهارة والأدب في كل حال. ولعلّ ذلك هو أدب محفوظ ورقّة قلبه، وهو ما أهّله للغناء كتابة 70 سنة، من دون أن يلتفت إلى مصاب الأيام أو جروحها، إلا بالكتابة والإنصات من بعيد لعذابات الزمان.
كان نجيب محفوظ يملك زاوية حصينة في المقهى، يرى من خلالها قاهرة العباسية ككتاب، وقاهرة الجمالية كحلم انتهى وجميل، وإن ظلّت ظلاله (ظلال الطفولة) أجمل ما كان في المكان والصداقة معا، وخصوصا في كتابه "حكايات حارتنا". ظلّ محفوظ يحمي ظهره بالحكايات عن الأصدقاء في المقهى، وخصوصا بعدما ازدادت دربته في الكتابة وقراءة الأحداث والبعد عن نكد السياسة الجارحة، بعدما كان من جمال عبد الناصر ما كان، فكان كتابه "المرايا".
نجيب محفوظ ذلك الذي شرب الكثير من عسل الصداقة وقلّبها على أجنابها وسند ظهره محتميا بالمقهى، أي مقهى، حتى كانت أيامه الأخيرة، بعد "نوبل"، وقد مشى مستندا إلى أذرع أصدقائه وقلوبهم حتى مات.
فرناندو بيسوا ساعده أصدقاءٌ من طينة أخرى، أوجدهم معه وكتبوا الشعر، فكان يكتب بهم أو من خلالهم، واختلط المخلوق بالخالق الأدبي، حتى تلاشت المسافات أو كادت، بينما حافظ نجيب محفوظ على تلك المسافة القاسية جدا ما بينه وبين أصدقائه، وما أدخلهم في حياته أو خصوصياته أبدا حتى مات، بينما كان باب الصداقة عند بيسوا مفتوحا ومتاحا بمفتاحه لكلّ من يدخل أو يدخله إليه أدبيا كضيف أدبي يملك من حشاشته، ويعبر إلى العالم من خلال الورق، فهل صار قلب بيسوا كقبيلة من الأصدقاء الذين تعدّوا المائة، كما قالت عنه الدراسات، بينما يظلّ نجيب محفوظ محتفظا بظهره في حماية ذاته والمقهى، وحتى الحضرة أو الذكر راقبهما بالكتابة وفي الكتابة، وظلّ مختفيا، والمكان الوحيد الذي يعلن فيه عن حضوره الفريد كأستاذ هو المقهى، رغم أنه كان بعيدا جدّا عن فكرة الأستاذية، بمعناها السلطوي أو المتحكّم، كانت الحكمة تحميه أيضا من شوائب الصداقة، وعلّها فطنة ما دون أن ندري.
كان محفوظ يستمع للذي هناك ساهيا عن المشهد، عامدا، حتى وهو في ونس الأصدقاء، كما فعل في روايته "ثرثرة فوق النيل"، أو "ميرامار".
كان يجلس في رواية "قشتمر"، مع أصدقاء من الطبقة الوسطى، الآباء من صغار الملّاك ومن أصحاب الفيلات الصغيرة أو الكبيرة المتناثرة في العباسية أو بين السرايات، ولهم خلفيات فلاحية أو شركسية، أو من أصحاب المصانع التي دخلت إلى دولاب الدولة الصناعية في القرنين التاسع عشر والعشرين، سواء مسابك النحاس أو مصانع الحلاوة الطحينية أو كبار موظفي السكّة الحديد، ومنهم من كان يعشق الدين من هؤلاء الأصدقاء، كإسماعيل، ومنهم من كان يعشق الشعر، وهو "طاهر"، جو طبقة وسطى استراحت في بداية القرن العشرين، قبل هول الحروب والأزمات وضنك الوظائف وخصوصا بعد الثورة. هكذا يتغنّى نجيب محفوظ بذلك النعيم المقيم في بداية القرن العشرين في "قشتمر"، حتى وإن لم يتركه عازف الربابة بتلك الأهوال التي  ننتظرها وتنتظرنا هناك.
".. العباسية في شبابها المنطوي واحة في قلب صحراء مترامية. في شرقها تقوم السرايات كالقلاع وفي غربها تتجاور البيوت الصغيرة مزهوة بجدتها وحدائقها الخلفية. تكتنفها من أكثر من ناحية حقول الخضر والنخيل والحناء وغابات التين الشوكي. يشملها هدوء عذب وسكينة سابغة لولا أزيز الترام الأبيض بين الحين والحين في مسيرته الدائبة ما بين مصر الجديدة والعتبة الخضراء، ولكن عند الأصيل يطوف بشوارعها عازف الربابة المتسول بجلباب على اللحم يشدو: وآمنت لك يا دهر ... ورجعت خنتني". فهل المدينة تخون كما يخون الأصدقاء، وكما قال عازف الربابة، خيانة الدهر أو الجسد في كلماته القليلات في وسط القاهرة المطمئنة ساعتها وهو في جلبابه الرخيص على اللحم بالقرب من مقهى المستورين، وهل لذلك أنصت له نجيب محفوظ، كما كان ينصت للأذكار في التكايا والحضرة دون أن ينخرط فيهما، فقط ينقل بكلماته أشواق القلب وطراوة الدمع، وهل لذلك مشى سالما، ولم يطله الأذى، إلا بعد ما صار شيخا طاعنا، ومن غرائب قلبه الوديع أنه تسامح، سماحة تستحقّ التأمل في هذه الأيام.

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري