من أيقظ النازية يا صفية؟

13 أكتوبر 2023
+ الخط -

في النّقل المباشر، تُشبه لغة الحرب عند القادة الإسرائيليين لغةَ إبادة عرقيّة نازية، تتحدّث عن محوِ "العدو" وإبادته وطحنِه، وتُعيد إنتاج الخطاب النازي الذي عانى منه ضحايا المحرقة، مضافةً إليه صفتيْ "نحن الأفضل والأقوى". هل اختلطت عليّ الأمور وبدأت أقتبس من خطاب هتلر منذ ما يقرب من عمر الكيان؟ لا، إنه خطاب بيني غانتس زعيم معسكر الدولة، الذي شكّل حكومة طوارئ مع نتنياهو، الذي فقد صوابه كما فعل باقي زملائه، حين اختلط عليهم شعبٌ نهب بلداً بأكمله، وقتل أهله وحبسهم وعذّبهم سبعة عقود، بشعب آخر بريء. وصاروا يطالبون بنجدتهم أوّلاً، ثم محو الشّعب الثاني الذي صار هو الغريب الذي يمدُّ يدَه إلى سرير غيره، ويسحب وسادته من تحت رأسه ليخنقه بها.

أمام الكاميرا 1: أمٌّ استُشهد ابنُها للتوّ، تؤكّد بوجهٍ يغمُره السّلام، أنّ لا غصّة في قلبها، فابنها الذي رحل للتو شهيدٌ عند الله، وتكتفي بذلك. فلا تدعو على العدو، ولا إلى محوه من على الأرض، رغم أنّه المعتدي والقاتل ومغتصب الأرض والحقوق. أمام الكاميرا 2: أمٌّ اختفى ابنها، فتُولول وتدعو إلى إبادة الفلسطينيين ومحوِهم من على الأرض، لأنّ شعبها شعر بالخوف أول مرة، فيما يُذيقون هذا الشعب "المدعوّ عليه" الرعب والتّقتيل كل يوم، منذ أكثر من سبعين سنة.

الفرق بينهما يكمن في تفصيل بسيط هو الجهة التي يقف فيها كل منهما من الحق. الفرق أيضاً يكمن في نمط الحياة بين من يعيش مخنوقاً محروماً من حرّيته ومن يمشي فرحاً في أرض ليست له، من دون أن يرمش له جفن. يمكن الاقتراب من الوهم الذي يعيش فيه الكيان وتقمّصه دور الضحية مكسور الجناح، حتى صدّقه وآمن به، من خلال ملاحظة هيئة الجنود الإسرائيليين الأسرى الذين اقتيدوا من ثكناتهم، والذين بدا عليهم الرخاء والامتلاء، كأن الجندية مهنةٌ خفيفةٌ، تشبه حراسة مجمّع سكني. لقد صدّقوا الكذبة التي اخترعوها، وصارت البيوت بيوتهم، وشعروا بالأمان، يا صفية، في وطنٍ ليس وطنهم وأرضٍ ليست لهم، وتركوا لملايين الفلسطينيين الشتات بلا مأوى في بلدان الناس.

لحسن الحظ، أنك لا تحتاج للفوز في المعارك أسلحة، فالأسرى الذين حفروا نفقاً لكيلومترات بملعقةٍ انتصروا. لكنك لربح الحرب تحتاج أسلحة. هو ما بدأ يتحقق بـ"طوفان الأقصى". لكن، ماذا عن معركة الخارج التي لا تحتاج رصاصا، بل إيمانا قويا؟ مع انهيار محيط فلسطين، متنازلا عن إيمانه السابق، وغير المشروط بعدالة القضية. وتهاوي الأنظمة في مستنقع التطبيع، مع بعض الفئات من الشعوب التي تتكلف "السوشيال ميديا" بإظهارها، ممّن بودّهم أن يلفّ الصمت القضية، حتى لو عنى ذلك أن يتشتّت الفلسطينيون عن آخرهم في الأرض.

من الصعب مناقشة "العقل التطبيعي"، لأنه عقلٌ تقوده اعتباراتٌ غير منطقية، بل وهمية. وإسرائيل حتما ليست ذلك البلد المتقدّم والعبقري الذي اخترع ويخترع طرقا شيطانية للتغلب على الحياة ومصاعب الطبيعة، كما رُوّج كثيرا ذلك، بل هي دولة مزوّرة قائمة على الاغتصاب، سكانها في مكانٍ ليس لهم، حتى لو تظاهروا بالعكس. فيما يعيش المطبّعون والمحايدون من الناس حياتهم بسلام، طالما لا يسمعون عن قصف غزّة، إلى أن تنكش حركة حماس "النمرودة" عشّ الدبور وتبحث عن خراب بيوت الغزّيين. لذا المطلوب في نظرهم أن ينتهي أمر "حماس"، ليعمّ السلام. ما أصعب أن تكون بصيرا في بلدان العميان، بعدما صار الضمير العالمي بعد هذه القرون من الحضارة الإنسانية قادرا على النظر من ثقب الباب إلى الواقع، ولا يرى منه سوى الثقب!

يتكلّف الفلسطينيون بمعاركهم الداخلية، فماذا يفعل "إخوتهم في الخارج" ممن يتمنّى بعضٌ منهم أن تفتح الحدود للانضمام إلى مقاومة مسلحة ضد الكيان؟ فيما يمكنهم أن يقوموا بالجزء الذي يقدرون عليه في الخارج. وهو تحريك الرأي العام ومواجهة غسيل الدماغ الذي صار العرب أول ضحاياه، فصار من يدرك حقيقة الوضع، وسط هذا الضباب الذي نغرق فيه، حيث العمى قاعدة، والإبصار استثناء، علامة محيطه ورمزه.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج