منطق الطرب ومنطق العلم والذوق
اعتدنا أن نصغي إلى أغنياتٍ جميلةِ اللحن، سريعةِ الإيقاع، ونندمج معها، ونردّد كلماتها باستمتاع، ولكننا قلّما نتفكر بمعانيها. خذ مثلاً أغنية "يا صَبَّابين الشاي زيدوا حَلَاتُه" التي أخذها الفنان توفيق النمري (1918- 2011) من الفولكلور الأردني، وغنّتها بعده سميرة توفيق، واشتُهرت بها، ثم أخذتها مطربة اسمها إلين خلف، من دون الإشارة إلى مصدرها، وحوّلتها إلى فيديو كليب لاقى رواجاً كبيراً، وأصبح عددٌ هائل من المتابعين الشباب يتداولونها باعتبارها أغنية إلين خلف. المقطع الرئيسي في الأغنية يقرنُ زيادة السكر في الشاي بالسرور و"الكيف"، بل ويعتبر حياةَ مَنْ لا يحب هذا النوع من السرور لا قيمة لها: "اللي ما يحب الكيف لشو حياتُه؟"
الأغنية، على كل حال، ظريفة، لا يُمَلُّ سماعها، على الرغم من أن الشاي المحلّى بـ "سكّر زيادة" لا يجعل المرء "يكيّف"، بل قد تصدّه الرشفةُ الأولى من الكأس نفسَه، فلا يعود قادراً على ارتشاف البقية... ينصح الأطباء، عادة، بشرب كميةٍ قليلةٍ من الشاي يومياً، فهو نافع للجسم، أما الإفراط في تناوله فيرفع الضغط، ويزيد الحالة العصبية، وإذا شُرب قبل مضيّ ساعتين على تناول الطعام، يَمنع الأمعاء من امتصاص عنصر الحديد. ويحذّرون، كذلك، من تناول السكّر المذاب، لأنه يتحوّل في الجسم إلى شحومٍ ثلاثية، تساهم على نحو فعال في تشكيل الكتل الشحمية، وأبرزها "الكرش". ويؤثر على الأعصاب، ويساعد على تشكل الخثرات الدموية. وإذا كان لدى المسرف في تعاطي السكّريات إصابة غير مشخصة بالداء السكري، فقد تحدُث له اختلاطاتٌ لا تُحمد عقباها.
يجدر بنا أن نأخذ بالاعتبار أن وجود السكّر في البلاد العربية جديد نسبياً، يعود إلى منتصف القرن العشرين. وقد كان، في أيام ظهور أغنية "صبّابين الشاي"، يُقَدَّمُ للضيوف المعتبرين، والحبايب. وهذا يعني أن مؤلف الأغنية كان يهدف من زيادة حلاوة الشاي إظهار الكرم والجود... وفي كل الأحوال، ستبدو الأغنية المذكورة بسيطة و"جنحة" إذا قارناها بأغنياتٍ أخرى تجعل العدوان على الآخرين أمراً محبّباً، وتعتبره نوعاً من البطولة، كما في واحدةٍ من أغاني القدود الحلبية، يغنّيها صباح فخري، تقول "بالسيف لآخُدْ بنتهم، وأرحل على ديرة هَلي"... أقلّ ما يقال في أخذ امرأة بالسيف، أو بأي نوع من الأسلحة الحديثة، إنه عمل همجي، بلطجي، بالإضافة إلى أن الصورة التي تنطبع في أذهاننا، ونحن نسمع هذا المقطع، توحي بغياب القانون عن المجتمع، فالرجل المغنّي يأخذ ابنة الناس بالسيف، ويمضي إلى ديرة أهله، ماشياً الهوينى، من دون أن يكون لفعلته أي عقابيل.
ثمّة فكرتان تغريان المرء بإبرازهما في مثل هذا الموضع. الأولى أن الغناء لا يقلّ أهمية عن الشعر، بل إنه أقدر من الشعر على التسرّب إلى لا شعور المتلقي، ثم سُكْناه... ومعلوم أن كبار شعراء العربية كانوا يتسابقون للفوز برضى أم كلثوم، عساها تغنّي بعض أشعارهم فتشهرها، مثلما كان من أمر أحمد شوقي، وأحمد رامي، وإبراهيم ناجي، وعبد الله الفيصل، ومرسي جميل عزيز، وجورج جرداق... وفي هذا السياق، نتذكر قول أنسي الحاج إن أكبر مكافأة يمكن أن ينالها شاعر أنْ تغنّي له فيروز. الفكرة الثانية مسؤولية المطرب الذي يحتل مساحة واسعة من الشهرة والأهمية والروعة عن مراجعة الكلمات التي سيغنّيها، لتصبح جزءاً من شخصيته. ومعلومٌ أن أم كلثوم كانت تناقش كل كلمة وكل بيت في القصيدة التي ستغنّيها مع المؤلف والملحن. وعبد الحليم حافظ اجتمع مطولاً مع الشاعر الكبير نزار قباني والموسيقار محمد الموجي لتعديل بعض الكلمات في "قارئة الفنجان" (1976). وعاصي الرحباني غيّر جملة "اضربها صَرْمة تعيش مرتاح" من أغنية سيد درويش، بينما يغنّي مطربنا الكبير صباح فخري: "إن جيتي وجبتي حدا معاكي، أهدّ الدار وأجعلها خرابا".