16 نوفمبر 2024
ملاعب للحرية.. في ليبيا
كأن اختيارَ مؤسّسة الدوحة للأفلام فيلم "ملاعب الحرية" ليكون عرضَ افتتاح مهرجان أجيال السينمائي في دورته الحالية (السادسة)، أول من أمس، يوجّه تحيةً للمرأة العربية، عندما تقاوم بشجاعةٍ وعزيمةٍ قوى القهر الضاغطة اجتماعيا، سياسيةً أو متديّنة. الفيلم تسجيلي، فيه عيوبُه السينمائية، غير أن لمحتواه، وما يضيء عليه بشأن القضية التي يُعنى بها، أهميةً كثيرةً، تُعطيه قيمةً متقدّمةً، وتجعلُه يستحقّ التنويه. وقبل ذلك وبعده، تهنئة مخرجته، الليبية البريطانية الأم، نزيهة عريبي (مواليد 1984)، على انتباهتها إلى نسوةٍ ليبياتٍ طموحاتٍ، شجاعاتٍ، جسوراتٍ، ينجحن في تشكيل فريقٍ نسائيٍّ لكرة القدم، يُحارب من أجل الاعتراف به، ولكي يحقّق حضورا في بلده وخارجها. وفيما لم يُوفّق من عملوا في مهرجان تورنتو السينمائي في ترويج أفلام دورته، في سبتمبر/ أيلول الماضي، في وصفِهم "ملاعب الحرية" جوهرةً سينمائيةً، فإنهم أصابوا في اعتباره "عملا وثائقيا مميّزا ونادرا". ولأنه كذلك، فإن احتفاء مهرجان أجيال بهذا الفيلم يستحقّ تثمينا، عندما يسّر هذه المناسبة لمشاهدته، أقلُّه للتعرّف على تجربةٍ لا تحوز اكتراثا إعلاميا، في ليبيا التي قلما يُلتَفَتُ فيها إلى غير نوبات اقتتالٍ أهليٍّ لا تتوقف، وتنازعٍ سياسيٍّ لا يُراد له أن ينتهي.
كان معمّر القذافي يكره كرة القدم. ازدراها في "الكتاب الأخضر". وتحتاج قصّتها في ليبيا في زمنه أن تنكتب، بعلميةٍ ومنهجيةٍ محكمةٍ في البحث والدرس والتفكيك. ومن حزمة وقائع غزيرةٍ في أمرها أن الأخ العقيد كان يمنع المعلّقين على المباريات (على قلتها) من الإتيان على أسماء اللاعبين في أثنائها، ليكتفوا بأرقام قُمصانهم، حذرا من شهرةٍ قد يحوزونها (!). وعندما شبّ نجلاه، الساعدي ومحمد، ثم صارا شغوفيْن بكرة القدم، أقنعاه بالتخفيف من مقتِهِ لها، وأُعطي الأخير رئاسة اللجنة الأولمبية (في الجماهيرية العظمى)، ومُنحت رئاسة اتحاد كرة القدم لشقيقه، اللاعب لاحقا. في هذه الأجواء، لم يكن لاتحاد كرة القدم النسائية الذي أنشئ في 1997 أن يُحرز إنجازاتٍ يُعتدّ بها، ثم مات من دون نعي. بعد الثورة في العام 2011، بادرت ليبياتٌ، ثلاثٌ فيما يبدو، إلى تشكيل فريق لكرة القدم من النساء، من مختلف مناطق البلاد، كثيراتٌ من اللاعبات فيه طالباتٌ جامعياتٌ في الصيدلة والطب واللغات، بعضُهن محجباتٌ. يحدوهُن حماسٌ ظاهر، يلعبن ويتدرّبن في ملعبٍ في طرابلس، ويدرّبهن رجال أحيانا. نشاهد هذا كله في فيلم نزيهة عريبي الذي يتتبّع، في أكثر من ساعةٍ ونصف الساعة، ما تقوم به المُنتظماتُ في الفريق الناشط، في أربع سنوات بعد الثورة.
احتاج الفيلم تخفّفا من مشاهد لا تفيده بشيء، ومن ثرثراتٍ أثقلتْه جاءت كيفما اتفق، واحتاج ضبطا أكثر لإيقاعه، واستثمارا أفضل لمشاهد مهمّةٍ صوّرتها المخرجة، وإيضاحا لأمكنةٍ وتواريخ فيها، غير أن الموسيقى التي ترافقت مع بعض المشاهد كانت موفّقةً في الإيحاءات التي توخّتها، سيما في مشاهد قوية الدلالات، نجحت الكاميرا في التقاط نقاطٍ بعيدةٍ وأخرى قريبة، بتناوبٍ نابهٍ، وبانتقالاتٍ بين أفرادٍ وجموع، بين كتلٍ من البشر وامرأةٍ وحدَها تناجي أفكارها. وفي الأثناء، ثمّة ليبيا التي يُحارب بعضٌ فيها بعضا آخر، وللقطات الحرائق في غير مكانٍ في أثناء الفيلم دلالاتٌ غير خافية، ثمّة واحدٌ من المشايخ في مسجد يحذّر من فجورٍ يُشيعُه تشكيل فريق نسائي لكرة القدم. وثمّة بيانٌ تطالب فيه "أنصار الشريعة" شابّات هذا الفريق إلى التوقّف عما يفعلن.
ثمّة كثير من مظاهر غير رياضية في هؤلاء النسوة، تغيب اللياقة البدنية عند بعضهن، تُلاحظ السّمنة وعلائم الترهل، فضلا عن ارتجالٍ في التدريب (لعب الفريق أخيرا مع فريق إثيوبي، وخسر ثمانية صفر). كأن منطوق الفيلم ليس هنا، وإنما في العزيمة لدى هؤلاء الليبيات، وهن يستنكرن تشابه بعض ما يجري في بلدهن بالذي في أفغانستان. يؤكّد هذه العزيمة ذهابُهن إلى لبنان، للمشاركة في مناسبةٍ رياضية، وتباريهن مع فرق من مصر والأردن وفلسطين، على نفقتهن الخاصة، بعد عامٍ من منعهن من المشاركة في منافسةٍ نسويةٍ كرويةٍ في ألمانيا. هنا الفيلم، في رفض هؤلاء الشابّات، المتعلمات، قوى الضغط القاهرة في بلدهن التائه، .. ويحقّقن حرّيتهن في الملاعب مثلا.