11 نوفمبر 2024
مقطع من موريتانيا
تقيم في جمهورياتٍ عربيةٍ غير قليلةٍ أحزابٌ حاكمة، غالبا ما تصنعها الأجهزة إياها بعد أن يتوطّن الحكم للرئيس، ويجد هذا أن من لوازم سلطته أن ينبعث حزبٌ من بين جناحيه، حزبٌ لا تكفّ الشعوب عن انتخابه، في مواسم الاقتراع التي تتوالى، رئاسيةً ونيابيةً وبلدية. هذا تقليدٌ استقرّ عقودا، اختلف عن تخليق جمال عبد الناصر في مصر "الاتحاد الاشتراكي". ولعل أنور السادات هو من يعود إليه السبق في ابتداع هذه الصيغة في استيلاد حزبٍ حاكمٍ في أثناء رئاسة الرئيس، فكان الحزب الوطني الديمقراطي الذي نهض به لاحقا حسني مبارك وعائلته. استطاب الفكرةَ علي عبدالله صالح في اليمن، فكان "المؤتمر الشعبي العام"، وزين العابدين بن علي في تونس، فكان "التجمع الدستوري الديمقراطي"، وإنْ من حواشي الحزب الحر الدستوري، ومعاوية ولد الطايع في موريتانيا، فكان الحزب الديمقراطي الاجتماعي. وفي جيبوتي، صُنع حزب التجمع الشعبي للتقدّم، والذي حكم به حسن جوليود، قبل أن يورّثه لخلفه إسماعيل جيلة. وفي السودان، كان الثوب الحزبي ضروريا لثنائي انقلاب 1989 العسكري، عمر البشير وحسن الترابي، فكان "المؤتمر الوطني". ولأنّ "من تحزّب خان"، لم يجد معمر القذافي في هذه البدعة ما يروقُه، فكانت اللجان الشعبية في الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى. ولأن القصة كلها صارت، في العقد الثاني من الألفية الثالثة، من لزوم ما لا يلزم، لا يجد عبد الفتاح السيسي حاجةً إلى أن يتزعّم حزبا، فيما الجيش هو الأدفأ والأنفع.
أحدثت هذه المنتوجات الحزبية العربية، لتكون حاكمةً، تنويعا يغاير وراثة الرئيس زعامة الحزب التاريخي القائد للدولة والمجتمع، كما تيسّر هذا لحافظ الأسد في سورية، ثم لصدام حسين في العراق. وبعد موت الأول، وما جرى للثاني وبلده، ها هو بشار الأسد يحكم سورية بلواء "البعث". وبتنحية قصة جبهة التحرير في الجزائر، يكاد هذا يكون وحدَه بين نظرائه العرب من يحكم باسم حزبٍ موروث. وإلى هذه الأشكال الحزبية التي أبدعتها دواليب السلطة والحكم والمخابرات في جمهورياتٍ عربيةٍ زاهرة، يحدث أن تنشأ أحزابٌ في البرلمانات، لا لشيءٍ إلا لتتولى السلطة فقط، في بدعةٍ ربما لم تسبق العربَ إليها أي أمة، يشهد عليها تركيب "نداء تونس" في المجلس التأسيسي المنتخب بعيد ثورة 2011، فما أن نشأ، حتى صار حزبا أول، ثم صار منه رئيس الجمهورية المنتخب. وسبق هذه الحادثة الفريدة ما يماثُلها إلى حدّ ما، في موريتانيا، فعشية انقلاب الجنرال محمد ولد عبد العزيز، على الرئيس المنتخب، سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله، في صيف 2008، كان يتشكل في البرلمان حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الذي انعقدت له السلطة تاليا، بعد أن تزعّمه ولد عبد العزيز، والذي أحبّ أن يصير رئيسا منتخبا، فصار.
مناسبة هذا التجوال الموجز في جغرافيا عربية شاسعة، من دون المرور على اهتراء أحزابٍ وحظر أخرى، وتآكل دولٍ وتذرّر أخرى، أن الحزب الحاكم في موريتانيا، بدأ أمس "حملة انتساب" كبرى إليه. وليس في أرشيفات الأنظمة العربية، العتيق منها والأحدث، قبل الثورات المضادّة وبعدها، أن واحدا منها زاول أمرا كهذا. لم يحدث، إبّان المتحدَّث عنه أعلاه، أن اجترح العقل السلطوي العربي، والذي تجلس فيه المخابرات القرفصاء، صنيعا مثل هذا، أي أن ينشط حزبٌ يحكم البلد في توزيع بطاقات انتسابٍ له على الناس، وذلك للمرة الثانية، بعد حملةٍ مشابهةٍ قام بها الحزب المذكور بعد مؤتمره العام الأول في 2010، وأشهرَ غداتَها إنها أقنعت أكثر من 53% من الموريتانيين الناخبين بالانضمام إليه. وإذ تُواصل أحزاب المعارضة وتشكيلاتٌ أهلية ومدنية، منذ أيام، شجب هذا السلوك المشين (بتعبيراتهم)، وإدانة استخدام الدولة وأجهزتها في فرض الحزب الحاكم على المواطنين، فإن الأخير لا يكترث بكل هذا الغضب، وسيعلن عن أعداد من "نجحت" حملة الانتساب الكبرى في "إقناعهم" بأن يخدموا وطنهم ومجتمعهم، بكفاءة أعلى ممّا كانوا عليها قبل أن يصيروا أعضاء في حزب الرئيس محمد ولد عبد العزيز.
.. هو، إذن، مقطعٌ آخر في كوميديا تجبّر السلطة واستبدادها في العالم العربي الراهن، يضيف فيها الحكم الماثل في موريتانيا إسهاما ساطع الرثاثة.