مقايضة في رمال الصحراء
بعد هزيمة الدولة العثمانية وتفكيك أوصالها، في الحرب العالمية الأولى، جرى تقسيم تركة "الرجل المريض" في المنطقة العربية بين الدول الحليفة، بموجب اتفاقية لوزان عام 1924، والتي أسفرت عن حصول بعض الولايات العثمانية السابقة على استقلالٍ منقوص، كمصر والسودان ونجد والحجاز، ووضع ولاياتٍ أخرى تحت الانتداب البريطاني، كالعراق وفلسطين، وثالثة تحت الانتداب الفرنسي، كسورية ولبنان. وخضعت ولايات أخرى لنظام الحماية الفرنسية، كتونس ومراكش ومشيخات الساحل، كما وضع جنوبي شبه الجزيرة العربية وعدن تحت الحماية البريطانية. بعد ذلك، قامت الدول المنتدبة بتحويل الحدود الإدارية في المنطقة العربية إلى حدود لها صفة سياسية، تفصل بين مناطق الانتداب، بموجب معاهدات توزيع مناطق النفوذ، كمعاهدة "سايكس بيكو" بين فرنسا وبريطانيا.
بعد حصول الدول العربية على الاستقلال، بدءاً من العام 1941، ظلت الحدود السياسية التي رسمتها الدول الاستعمارية مفروضةً كأمر واقع على الدول العربية التي لم تشارك في تعيين تلك الحدود وتخطيطها. وشكّلت "حدود الاستعمار"، منذ ذلك التاريخ، مناطق رخوة في الخريطة العربية، تسببت في خلافاتٍ كثيرة بين الدول العربية، وصلت، في حالات كثيرة، إلى نزاعاتٍ مسلحة. وهكذا صارت حلايب منطقة نزاع حدودي بين مصر والسودان، وصارت "أبيي" منطقة نزاع مزمن بين حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان، حتى بعد انفصال الجنوب عن الشمال. ويتصارع المغرب وجبهة بوليساريو في الصحراء الغربية التي يسيطر المغرب عليها، ويديرها بصفتها الأقاليم الجنوبية، بينما ترفض "بوليساريو"، بدعم جزائري، هذه السيادة المغربية على الصحراء، وتعلن "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" المعلنة من طرف واحد. ويتنازع العراق والكويت على منطقة خور عبد الله الواقعة بين جزيرتي بوبيان ووربة الكويتيتين وشبه جزيرة الفاو العراقية. وهناك نزاعاتٌ حدوديةٌ بين الأقطار العربية تخبو سنوات طويلة، ثم تنفجر في لحظات تاريخية، مثل النزاعات الحدودية للسعودية مع كل جيرانها، والنزاعات الحدودية بين تونس وليبيا على الجرف القارّي، ونزاعات الجزائر وتونس .. إلخ.
كان الاعتقاد السائد، سنوات طويلة، أن الاستعمار تعمّد رسم الحدود السياسية الفاصلة بين الدول العربية، بشكلها الحالي، لتظل بؤر خلاف ونزاع، ما يحول دون وحدة هذه الدول، ودون تفرّغها لقضايا التنمية الاقتصادية والسياسية. وبدلا من ذلك، تبديد ثروات البلاد على نزاعاتٍ بينية، كلف بعضها خزائن الدول المتنازعة مليارات الدولارات، وخير مثال على ذلك النزاع في الصحراء الغربية الذي أرهق خزانتي الجزائر والمغرب نحو 45 سنة. راهناً، عادت قضية النزاعات الحدودية بين الدول العربية إلى طاولة اللعب السياسي، وقد وجدت فيها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورقةً رابحة للضغط على دول عربية، وابتزاز دول عربية أخرى، وخير مثال ما جرى مع المغرب الذي قبل بمقايضة اعتراف الإدارة الأميركية بالسيادة المغربية على أقاليمه الجنوبية مقابل إعادة العلاقات المغربية الإسرائيلية إلى مربّع التطبيع الكامل والعلني.
بصرف النظر عن حق المغرب في عقد ما يشاء من صفقات سياسية، تقع ضمن حدوده السيادية، وبصرف النظر عما سيحققه من انتصار سياسي على جبهة بوليساريو في الصحراء، يظل السؤال: هل ستنهي الصفقة المغربية الأميركية الإسرائيلية النزاع المتفجر بين الجزائر والمغرب منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، أم ستعيد تأجيجه؟ من يتابع تصريحات المسؤولين الجزائريين لا يمكنه إلا التخوّف من اشتعال هذا الصراع بأكثر دموية، خصوصا مع مخاوف جزائرية من تسلل إسرائيلي إلى المناطق الحدودية المحاذية لأراضيها، وهذا ما يُلمس في تصريحات رسمية جزائرية ترى في القرار المغربي - الأميركي مقايضةً تستخفّ بالشرعية الدولية، وتمسّ وضع الصحراء الغربية في الأمم المتحدة، وتستفزّ مشاعر "السيادة والهوية" للصحراويين، ما يفتح المجال لتقدم الخيار العسكري على الخيار السياسي، ويحرّك رمال الصحراء الحارقة من جديد.