مقاطع من عثمان سعدي
تأتي انتصار الوزير (أم جهاد) في محاوَرتها على شاشة تلفزيون العربي في برنامج "في رواية أخرى"، الأسبوع الماضي، على اسم عثمان سعدي، في حديثِها عن امتناع الرئيس الجزائري بن بلّه في العام 1963 عن اللقاء مع خليل الوزير الذي كان قد تولّى إدارة مكتبٍ أتاحته الدولة الجزائرية لحركة فتح، وبقي بلا فاعليةٍ ومعطّلا نحو ستة شهور، فرتّب أبو جهاد لأن يغادر البلاد، بعد شعوره بلاجدوى بقائه، غير أن صديقَه عثمان سعدي يُحدِّث بن بلّه، ويُزيل كل شكوكٍ في باله، فيستجدُّ حالٌ آخر، عندما يجتمع الرئيس مع خليل الوزير في لقاءٍ مثّل انعطافةً كبرى في بواكير حركة فتح والمقاومة الفلسطينية، فقد صار المكتب على نشاطٍ كبيرٍ، ومن خلاله قدّمت الجزائر إسنادا ماليا وعسكريا مهمّا للحركة. نسمع أم جهاد، مساءً تتحدّث عن هذا، ردّا على أسئلة الزميل بدر الدين الصائغ، (جاءت عليه في كتابها "رفقة عُمر"، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2022). وفي اليوم التالي، نُصادف نبأ وفاة عثمان سعدي عن 92 عاما. وكأن مصادفات الأقدار أرادت أن تذكّر بواحدٍ من مقاطع طيّبةٍ غزيرةٍ في صفحات حياة الرجل وهو يطويها، ويغادر إلى دار البقاء.
ذلك المقطع الفلسطيني البعيد في حياة السفير واللغوي والمؤرّخ الجزائري العتيد موصولٌ بنضاله في ثورة بلاده ضد الاستعمار الفرنسي، وقد كان أمين مكتب جيش التحرير في غضونها في القاهرة التي كانت داعما بارزا للثورة. ثم تولّى بعد الاستقلال مسؤوليات دبلوماسية، أولا في بعثة بلاده في الكويت، وهناك تعرّف إلى الشبّان الفلسطينيين الذين أقاموا حركة فتح، وتعيينا ياسر عرفات وخليل الوزير. وتالياً صار سفيرَ الجزائر في بغداد ثم في دمشق، فضلاً عن توليه مناصب قيادية في اللجنة المركزية لجبهة التحرير، ونائبا في البرلمان. وفي الأثناء، ظلّ ينشر المقالات والدراسات والقصص والروايات، ومؤلفاتٍ في تاريخ الجزائر وعروبتها وفنونها. وفي ذلك كله، كان عثمان سعدي صاحب السمْت الثقافي الظاهر في عمله الدبلوماسي، وفي شأنه هذا كان من لونٍ نادرٍ بين أهل السلك الدبلوماسي العربي.
شمائل عثمان سعدي التي يحسُن التأشير إليها بوصفها معاني وقيماً غزيرة، لعلّ عمودها الأساس مرابطته على عروبيةٍ ثقافية جامعة، وهو الذي ينحدر من قبيلة أمازيغية (أنجز معجماً عربياً أمازيغياً). وظلّ من أعلام حماة اللغة العربية في بلاده، وممن تصدّوا للفرنسة وتيارِها وناسها، وقد ترأس الجمعية الجزائرية للدفاع عن اللغة العربية. وخاض في هذا معارك ظل يلحّ فيها على القواسم المشتركة في الأمة. وهنا، يجوز الذهاب إلى أن نموذج هذا الرجل هو ما تحتاجه الأمة بإلحاح، بالنظر إلى غوايات التغريب، والازورار عن العربية، والعمل على قطع صلة الأجيال العربية الناشئة بالمحتوى الحضاري والثقافي الخاص لشعوبها وأمتها. ولم يكن عثمان سعدي في جهده الثقافي واللغوي والفكري هذا يصدُر عن انغلاقٍ وتعصّب، أو رغبة في خصومة أو مخالفة، وقد التقى مع الباحث الليبي الراحل، علي فهمي خشيم، في ردّ الأمازيع إلى منابت عربية، وأصدر كتباً في هذا المنحى.
لا يخرُج تخصيص هذه المساحة لقامة عثمان سعدي في رحيله، وهو اللغوي والباحث والمؤرّخ، عن صفتها معنيةً بشؤونٍ سياسيةٍ هنا وهناك، ذلك أن الشأن اللغوي، في الجزائر (وغيرها) يقع في صلب الشأن السياسي، والوطني قبله وبعده. ويبدو صاحب كتاب "عروبة الجزائر عبر التاريخ" داعيةً جسوراً إلى الأفق الذي يلمّ الأمة، وتحتاج دوما أن تصونه، وتستضيء به، سيما أنّ الرجل عندما يشدّد على خطورة ما تستهدف بلاده والدول العربية من مخاطر التبخيس من المضمون العروبي الجامع، فإنّه كان في هذا يذكّر بذخيرةٍ فاعلةٍ ومهمة تسعف الأمة في نضال شبابها وشيوخها، نخبها وعامّتها، من أجل بلوغ منزلةٍ متقدّمةٍ بين الأمم، في إنتاج المعارف والعلوم.
ما قد يقع عليه قارئ هذه الكلمات من حماسٍ فيها للذي أقام عليها عثمان سعدي من أفكارٍ وطروحاتٍ ومواقف لا يعني، بداهة، التسليم بكل ما جهر به ورآه وأعلنه، بل الدعوة هنا إلى محاورة أفكاره، ونقد ما قد يراه واحدُنا مستحقّا للنقد، من قبيل تزيّدٍ هنا أو هناك، وتعميةٍ على هذه الخصوصية وتلك، وقلة الاكتراث بتعقيدات مسائل مركّبة في أصلها. لكنّ الجوهري لدى الفقيد الكبير يبقى حاجةً من شديد الوجوب الاعتصام بها، تلك العروبية الحضارية وصيانة اللغة والانتصار لفلسطين وقضيتها.