مقاتلٌ واحدٌ وثاراتٌ غفيرة

22 أكتوبر 2023

(ملصق لإسماعيل شمّوط)

+ الخط -

بعد المجزرة الطازجة التي طاولت مستشفى المعمداني، أنصح المقاتل الفلسطيني في غزّة بألّا يلتفت خلفه، لاعتبارات كثيرة، ليس بينها حجم المثبّطات التي قد تدفعه إلى التراجع عندما يرى دموع الثكالى ومبلغ الدمار الذي يخلّفه القصف الإسرائيلي الهمجي، فذلك مقصودٌ لكسر معنوياته، غير أن ما أقصده مغاير تمامًا، وأعني به حجم الثارات التي يعلّقها عليه كلّ من لم يستطع بعد الأخذ بثأره من إسرائيل، فلسطينيًّا كان أو عربيًّا، أو نحو ذلك، فهؤلاء يتزايدون مع كل ساعة صمود، ومع كلّ صاروخ ينطلق من غزّة صوب هدفٍ عجزت عنه جيوش عربية بأكملها.

لم يكن هذا المقاتل، الذي سرى خفيفًا إلى الحرب التي قرّر موعدها بنفسه، يدرك أنّه سيغدو ثقيل الحمل إلى هذا الحدّ مع كلّ خطوةٍ يخطوها باتجاه الجبهة، فكلما مدّ يدَه إلى جعبته لسحب عتاد، فوجئ بثأر جديد لم يكن في حسبانه... جثثٌ غفيرة في دير ياسين وقبية، وأخرى سقطت اغتيالًا في كل العواصم، وجنود معفّرون بتراب الهزائم في حروبٍ أشبه بمسرحيات الأطفال.. لاجئون ونازحون على امتداد بصر زرقاء اليمامة... طالبة مدرسة مضرّجة بدمائها على حاجز عسكريّ... مسنّة تتعرّض للرّكل واللّكم من مجنّد غليظ.. امرأة كانت تتعجّل الوصول إلى أطفالها، فعاجلتها رصاصاتٌ من جنودٍ كانوا يبحثون عن وسيلةٍ لتبديد الضجر.. مرابطون في الأقصى لا يُنجدهم أحدٌ في معاركهم اليومية مع مستوطنين ما زالوا يبحثون عن هيكلٍ مزعوم.. عائلاتٌ ثكلت بأبنائها في لبنان وجنوبه، وسجّل القاتل باسم "مجهول".. أشلاء أطفالٍ على جدران مستشفياتٍ كانوا يعتقدون قبل دقيقة فقط أنها "ملاذات آمنة".. شعوب عربية تبحث عن كراماتها في ملثّم أوقف العالم على قدم واحدة.. كل هؤلاء، وأزيد، يراهنون الآن على مقاتلٍ واحد في غزة لردّ اعتبارهم، ودماء قتلاهم، بل وأرضهم عندما يستبدّ بهم التفاؤل وتصبح فلسطين على مرمى صاروخ.

أمّا المقاتل الوحيد على جبهة طويلة فيردّد حينها: "وخلفك كلّ ثارات العرب"، ليصبح مرّة أخرى "خفيفًا" كالفهد؛ لأنه ارتضى التحدّي.. وارتضى أن يكون الحصان الأسود الذي يكسر حظائر الخراف، ويعدو إلى سهوب الصهيل.

وعلى طرف مقابل، يحتشد الآخرون بدبّاباتهم، وبوارجهم، وأساطيلهم، "ليدافعوا عن أنفسهم".. وأنا أصدّقهم بتلك الذريعة على الأقل؛ لأن الحرب بالنسبة إلى إسرائيل أضحت وجوديّة فعلًا، وربما يحدُث هذا للمرّة الأولى منذ تأسيسها، لا سيما عقب انهيار معظم ثوابتها التي قامت عليها، وفي مقدّمتها جعل المعارك في أرض الآخرين على الدوام، فضلًا عن نظرية استباق العدو بخطوة.. لكن كل شيء في هذه الحرب انقلب، وأصبحت الحرب تُخاض على "أرضها" هي، وغدت هي المسبوقة بخطواتٍ، في قرار الحرب، وفي المعلومة الاستخبارية، فلأول مرّة يفرض الخصم أجندته، ويحدّد موعد الحرب، ويحشر العدوّ في خانة الدفاع عن النفس.

وأمّا أصحاب الأساطيل، والمتنصّلون من ديمقراطياتهم، وتماثيل حرّياتهم، ومن فلاسفة ثوراتهم، فقد هرعوا إلى المنطقة للدفاع، لا عن إسرائيل فقط، بل عن وعد بلفورهم، على غرار ما تفعل بريطانيا الآن، التي جاءت لتقول إنه وعدٌ لا يموت، ولا يمحوه الزمن، وها نحن عُدنا لنجدّده. وعلى غرار ما تفعله ألمانيا التي لم تجد مكانًا لخلاصها من "عقدة الذنب" إلا بنقل الهولوكوست إلى فلسطين، فيما تبحث الولايات المتحدة عن محاولة لإعادة اختراع إسرائيل على طريقتها في هيروشيما وناغازاكي. والأهم أنها تبحث عن تعويض ذاتيّ عن إخفاقها في أوكرانيا.

هو ثائر وحيد يحمل ثارات الجميع، بعد أن تخلّى عنه الجميع، ويمضي ليحارب الجميع. وعلى الأغلب أنه سينتصر؛ لأنه سيواجه العدوّ فردًا، مثلما يلقى وجه ربّه فردًا.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.