16 نوفمبر 2024
"معهد الدوحة" والرهان الناجح
لا تزيّد في الزعم أن لنهار هذا اليوم موقعه الخاص في راهن الأكاديميا العربية ومستقبلها، ولا شطط في القول إن اندفاعةً مثابرة تتحقق، في هذا السياق، في هذا اليوم الذي يبدأ فيه معهد الدوحة للدراسات العليا عامه الدراسي الأول، بعد أربع سنوات من التخطيط والتهيئة له، في جهودٍ تنظيمية وعلمية وإدارية، ساهم فيها مختصون من أهل الكفاءة في النهوض بالمؤسسات التعليمية والأكاديمية والجامعية، في حقول العلوم الاجتماعية والإنسانية، وفي الإدارة العامة واقتصاديات التنمية. وفي وقت تعرف فيه المؤسسة الجامعية العربية، في هذه الاختصاصات (وغيرها) تراجعاً واسعاً، على صعيد المنجز البحثي والنقدي في العلوم الاجتماعية، في النظرية والتحليل، في الدرس والتفكيك، في البناء والإضافة، وأيضاً في المستوى العام الذي يُعايَن لدى خرّيجين عديدين في هذه المعارف، فإن الجامعات العربية، (مع استثناءات محدودة) تحتاج، فيما يتعلق بكليات العلوم الإنسانية والاجتماعية والآداب والإعلام، وأيضاً في الإدارة العامة واقتصاديات التنمية، إلى ثورةٍ كبرى، لتحديث البرامج وأساليب التدريس وأنماطه، وتصيب أدوات التعليم وطرائقها ووسائلها، كما أن الحاجة شديدة الإلحاح إلى ثورةٍ لتطوير المناهج والنظم والعلاقات مع المجتمعات المحلية. وهذا حال هذه الكليات محرجٌ وشديد الضعف، على مستوى المنتوج العلمي، البحثي والنقدي والتحليلي، لهيئاتها التدريسية وطلبتها. وتتم هذه الصراحة، هنا، وبهذه المقادير، مع التقدير لكفاءاتٍ متميزة غير قليلة، بين الأساتذة والطلاب، ومن مختلف الأجيال، ومع التنويه بمنتوجات بحثية متميزة لهم، غير أن المشار إليه، هنا، يتعلق بالمؤسسّية الجافة، وبالتقليدية الرتيبة في التأطير والتأهيل، وباليباس الحادث في صلة هذه المؤسسات التدريسية، بالواقع العربي ومستجدّاته وأحواله، وصلتها بالمحيط العام وقضاياه وأسئلته.
يبدأ 131 طالباً وطالبة من عدة بلدان عربية اليوم دراستهم الماجستير في كليتين كبيرتين، تضمان اختصاصاتٍ في التاريخ والفلسفة والإعلام والدراسات الثقافية واللسانيات والأنثروبولوجيا والعلوم السياسية وغيرها، وفي الإدارة العامة واقتصاد التنمية، في معهد الدوحة للدراسات العليا الذي التحقوا به، وقد حظوا بمنحٍ لعامين، بعد أن تم انتقاؤهم من بين أكثر من 900 طالب تنافسوا على هذه الفرصة غير المسبوقة عربياً. وأنْ يكون الرهان هو تأهيل هؤلاء الطلاب المختارين، وهم شبّان طموحون ومتفوقون، في اختصاصاتهم ليكونوا باحثين يجمعون بين التكوين الأكاديمي والعمل المعرفي، فذلك مبعث احتفاءٍ مضاف بالصرح العلمي الناهض في الدوحة، والذي يحظى برعايةٍ ودعمٍ من القيادة السياسية القطرية. وقد سمعنا، في فعاليةٍ تعريفيةٍ بأساتذة المعهد وطلبته وبرامجه، أن هذا كله إنما للمساهمة في تكوين جيل جديد من الأكاديميين والباحثين المستقلين فكرياً، والمتمكّنين من المعايير العلمية والأكاديمية والأدوات البحثية المنهجية الحديثة، القائمة على تداخل الاختصاصات.
يجمع معهد الدوحة للدراسات العليا نخبته من الأساتذة من جامعات أوروبية وأميركية وأسترالية ذات مكانة عليا، ويتبنى، في الوقت نفسه، العربية لغة التدريس الأساسية، مع الانفتاح على اللغات الأخرى، ويعلن عن ذلك باعتباره أمراً جوهرياً وليس تفصيلياً. ويلح المعهد، كما سمعنا من أساتذته، وكما أوضح غير مرة، رئيس مجلس الأمناء فيه، الدكتور عزمي بشارة، وكما أفاد رئيسه بالوكالة ونائب الرئيس للشؤون الأكاديمية، الدكتور ياسر سليمان، يلح على الجمع بين الدراسة النظرية والممارسة وخدمة المجتمع، وعلى الدأب في البحث العلمي، تحت شعار الاستقلال الفكري والوعي النقدي، في طموحٍ كبير عنوانه المشاركة العربية في إنتاج المعرفة. وإذا قال قائل إن العبرة بالنتائج، وإن العرب مولعون برفع الشعارات وإشهار البلاغات الإنشائية والكلامية، كما تفيد بذلك تجارب مشهودة، فله كل العذر، غير أن المهنيّة الرفيعة والرؤية غير الربحية والانصراف إلى غايات تعليمية وبحثية وخدمية للمجتمع، وغير ذلك من أسسٍ يقوم عليها معهد الدوحة تجعلنا لا ننتظر من هذه المغامرة الثمينة، في هذا الزمن العربي التعيس، إلا النجاح، وحده النجاح.