معضلة الانتخابات الليبية وتآكل الدولة
منذ النصف الثاني للعام الماضي (2023)، اتجهت ليبيا نحو سنّ التشريعات الانتخابية، لتنتهي من صياغتها وإصدارها في أكتوبر/ تشرين الأول، غير أن فشل إجراء الانتخابات الماضية في 2021 يثير التساؤل عن مدى قابلية المناخ للمضي في المسار الانتخابي، وخصوصاً مع وجود مشكلة التكامل السياسي وتآكل الدولة لحساب دوائر النفوذ الداخلية والخارجية. وتساعد مناقشة الإطار القانوني وروافعه السياسية، وتساند مصالح الأطراف السياسية وتعارضها، في استشراف إمكانية الوصول إلى محطّة الانتخابات الأخيرة.
مشكلة النظام الانتخابي
حاول النظام الانتخابي بناء نسقه التشريعي على المناقشات بين مجلسي النواب والدولة، بحيث يأخذ في الاعتبار الإطار الدستوري، فقد استند قانونا الانتخابات 27 و28 لسنة 2023، للمرّة الأولى، إلى اعتبار الاتفاق السياسي ضمن مصادر التشريع، ويرجّح أنه استجابة لانتماء لجنة 6 + 6 لمخرجات اتفاق الصخيرات، وتمهيداً لمصادقة الأمم المتحدة. ورغم وضوح المرونة في توسيع المرجعية التشريعية، تضمن النظام الانتخابي أربع سمات رئيسية، تمثلت الأولى في الربط غير المنطقي لمصير انتخابات مجلس الأمة بالانتهاء من انتخابات الرئاسة، فقد نصّت المادّة 6 على إجراء انتخابات مجلس الشيوخ مع الجولة الأولى للرئاسية، وربط انتخابات مجلس النواب بالجولة الثانية. لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل نصت المادّة 6/3 على أن تعذّر إنجاز الانتخابات الرئاسية يلغي تلقائياً نتائج التشريعية، ما يمثل هدراً للإرادة الشعبية، واعتبرته المفوّضية الوطنية من العيوب التشريعية المتجاوزة مبدأ وحدة الانتخابات.
أما الثانية، فكانت في تأسيس قانون الانتخابات الرئاسية على لزوم الجولة الثانية من دون النظر إلى نتائج الجولة الأولى، ولم تكن الجولة الثانية للحصول على الإجماع وتحقيق التوافق الوطني بقدر معالجة متأخّرة للخلاف على ترشيح مزدوجي الجنسية. وقد أسست اللجنة 6 + 6 رأيها بإلزامية الجولة الثانية على ضعف احتمالية فوز أحد المرشّحين من الجولة الأولى، وذلك على خلاف موقف رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، أن العِلة كامنة في الفصل بين الجولتين، ما يمثل إخلالاً بوحدة الانتخابات لأسبابٍ غير موضوعية، قَيّد فيها القانون الحقّ العام في اختيار رئيس الدولة بالحقّ الخاص في الاحتفاظ بالجنسية الثانية، وهو ما يعني مخالفة الفلسفة القانونية في التحيز للحاجات العامة.
أعادت البعثة الأممية هيكلة مبادرة سابقة في فبراير 2023، بإنشاء "لجنة توجيه رفيعة المستوى في ليبيا"، تكون بديلة لمجلسي النواب والدولة
وكانت الثالثة في التخلي عن حرمان المواطنين من الترشّح، سوى منع ترشيح مزدوجي الجنسية لمجلس الأمة، مادة 17/ 2، فيما سمح بمشاركة مزدوجي الجنسية في الجولة الأولى لانتخابات الرئاسة. قد يكون هذا التغيّر نوعياً، لكن ظلاله السياسية سوف تكون جدلية، حيث لم تتم تسوية الخلاف بين المجلسين بشأن حرمان العسكريين ومزدوجي الجنسية (للرئاسة) من الترشّح بطريقة تفاوضية، بل صاغه مجلس النواب تحت دعاوى ترك الحرّية للناخبين لاختيار المرشّحين.
والرابعة، على خلاف القوانين السابقة، توسّع النظام الانتخابي في منح المفوضية الوطنية، المواد 3 و31 و41، صلاحيات كاملة، للإعلان عن بدء الانتخابات وإدارتها وإعلان النتائج، وذلك بجانب إسناد مهمة الإشراف الأمني للجنة 5 + 5. ورغم التفويض الواسع لكلٍ من الجهتين، يتوقّف نجاحهما على جاهزية المكوّنات العسكرية والأمنية. والأجهزة الإدارية في الاستجابة لاحتياجات العملية الانتخابية.
ومع استمرار نظام الصوت الواحد والفائز الأول، يمكن القول إن النظام الانتخابي لم يقدّم مراجعة للانتخابات السابقة، لخفض هدر أصوات الناخبين، قد تُعالج العودة إلى القوائم الحزبية هذا القصور، مستوى تمثيل المؤسّسات لهم، فالنظام القائم يضمن تمكّن مجموعات قليلة من الوصول إلى السلطة، بحصولها على نسبٍ لا تتجاوز 25% من إجمالي الأصوات الصحيحة، ولا يضمن تكافؤ الفرص للمواطنين.
البعثة الأممية والمائدة المستديرة
وبعد إقرار قانوني الانتخابات، اتّجهت البعثة الدولية لوضع مبادئ المرحلة الجديدة، 12 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، للالتزام السياسي، حسن النيّة، والتسوية الوطنية، إطارا للتفاهم على إلزامية إجراء جولة ثانية للانتخابات الرئاسية وارتباط التشريعية والرئاسية، وتشكيل حكومة موحّدة جديدة. ولاحقاً، ولدى قبول البعثة الأمم المتحدة بقانوني الانتخابات في 30 أكتوبر/ تشرين الأول، ونشرهما في الجريدة الرسمية الصادرة في 1 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أعادت البعثة الأممية هيكلة مبادرة سابقة في فبراير/ شباط 2023، بإنشاء "لجنة توجيه رفيعة المستوى في ليبيا"، تكون بديلة لمجلسي النواب والدولة. فيما يقوم الإطار الجديد على عضوية رؤساء المؤسّسات الرئيسية الخمس: المجلس الرئاسي ومجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة وحكومة الوحدة الوطنية والجيش الوطني الليبي. وبرّرت البعثة طرح هذه المبادرة بقدرة هؤلاء المسؤولين على تقرير مصير الانتخابات وإعاقة الحلّ السياسي.
رأى عبد الله باتيلي أن مسؤولية البعثة هي في تسهيل عقد الحوار، وليس ضمان الالتزام بتنفيذ المخرجات، ما يمثل الحد الأدنى لدور المنظمة الدولية
ووفق تصوّرها، يتم تنفيذ المبادرة على مرحلتين، تبدأ بجلسة تحضيرية يشارك فيها ثلاثة ممثلين لكل طرف لجدولة اجتماع القادة. وعلى التوازي، يعمل ممثل الأمين العام الخاص للأمم المتحدة في ليبيا، عبد الله باتيلي، على استعادة مبادرته السابقة، بتوسيع مشاوراته مع الحزبيين والقادة الاجتماعيين والداعمين الإقليميين، لتحييد قدرة أي مجموعةٍ على تعطيل الانتخابات، حيث سعى، 23 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، للتواصل مع الأحزاب، الأطراف العسكرية والأمنية، الشيوخ والأعيان، والمكوّنات الثقافية واللغوية، والأكاديميين والمجتمع المدني.
تواجه مبادرة البعثة قيوداً، فمن جهة، يتّسم أداء الأمم المتحدة بالتكاسل عن تفعيل القرارات الدولية، فكما كل القرارات الصادرة عن مجلس الأمن، يتوقّف القرار رقم 2702 عند تمنّي المصالحة والحل السياسي والدعوة إلى الاستخدام ذي الكفاءة للموارد، من دون الإشارة إلى الإلزام بعقد الانتخابات ومكافحة الفساد، ما يعكس الجمود المستمر في سلوك المنظمة الدولية. ومن جهة أخرى، يمثل اختلاف استجابة الساسة الليبيين مانعاً من المضيّ في تطوير اجتماع المائدة المستديرة. وبينما لقيت دعم المجلس الرئاسي ومجلس الدولة، دفع عقيلة صالح وخليفة حفتر إلى حصر الاجتماع في ممثلي المجلسين وقائد الجيش، وهنا، يبدو استبعاد المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة تفاوضياً، حيث يظهر مطلب إضافة حكومة بنغازي إلى الاجتماع.
ولتحديد موقفه تجاه القيود، رأى عبد الله باتيلي، 24 الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول)، أن مسؤولية البعثة هي في تسهيل عقد الحوار، وليس ضمان الالتزام بتنفيذ المخرجات، ما يمثل الحد الأدنى لدور المنظمة الدولية، حيث تتخلّى عن الصلاحيات الواسعة والواردة في القرار 2009 لسنة 2011. وبهذا المعنى، يتحوّل إلى أمانة إدارية لتسيير الاجتماعات وقت انعقادها، وتجميع المقترحات. ووفق هذا التحديد، لا يُعدّ إقرار الأمم المتحدة قوانين الانتخابات كافياً للسير نحو الانتخابات أو لبدء التفاوض بشأن تغيير حكومة الوحدة الوطنية.
يواجه الاقتصاد الليبي مشكلاتٍ هيكلية، تتمثل في تنامي الفساد واهتزاز سوق النقد بسبب هروب السيولة إلى الأسواق غير الرسمية
البيئة السياسية وقيودها
وفي سياق مناقشة مقوّمات النظام الانتخابي، تبدو أهمية الاقتراب من مدى استجابة السياقات السياسية والاقتصادية للمسار الانتخابي. من وجهة أساسية، تعاني ليبيا من غياب نظام سياسي واضح الملامح، فالوضع في ليبيا مجموعة سُلطات هشّة لا تتوفر لها إمكانية استكمال مقوّمات الدولة، فمن وجهة أساسية، لا تتوفّر الدولة على نظامٍ للحكم، يمكنه توزيع الصلاحيات وضبط نقل السلطة، بالإضافة إلى تنظيم الحسابات القومية على أساس توزيع الدخل القومي على السكان، ما يترك الفرصة لاجتهادات مراكز النفوذ في تصريف الإيرادات عبر قواعد تَحكّمية لا تسمح بتكامل الدولة. ومع سيولة النظام المحلي، تسود ظواهر التنافس الجهوي على الثروة واحتكارها أو تعطيلها، وتتفاقم هذه المشكلات مع تنامي انتشار الجماعات المسلّحة ودوائر النفوذ غير الرسمية. كما يشير تتابع الاشتباكات المسلحة وإغلاق حقول النفط إلى انهيار الرغبة في المصالحة الوطنية أو التراضي على قيادة انتقالية لإدارة الانتخابات.
وخلال الفترة الماضية، قامت مشاريع الرقابة المالية على تحييد الإنفاق العام تجاه الانتخابات، ومنع استخدام الإيرادات في الاستحواذ على القرار السياسي، لمنح الحرّية لاختيارات الناخبين. غير أنه، وفقاً لتقارير المصرف المركزي وديوان المحاسبة، يواجه الاقتصاد الليبي مشكلاتٍ هيكلية، تتمثل في تنامي الفساد واهتزاز سوق النقد بسبب هروب السيولة إلى الأسواق غير الرسمية، عدم القدرة على تحصيل عوائد النفط وبقائها عند المؤسّسة الوطنية.
وتشير التقارير الشهرية للمصرف المركزي إلى عدم تناسب التحصيل مع كمية النفط وفق سعره الحالي، ما يشير إلى واحد من احتمالين: إمّا استخدام جزءٍ من الإيرادات في تمويل واردات المشتقّات النفطية أو احتجازه في المؤسسة الوطنية من دون ظهوره في الحسابات السنوية. ورغم انخفاض الناتج المحلي في 2022 بمعدل 9.2% عن العام السابق، توسّعت الحكومات في الإنفاق العام متمثلاً في رفع المرتبات ومنح الزواج والعلاوات ومنح السكن، وهي سياساتٌ لم تُحفز على الخروج من الكساد، بقدر كونها أداةً لتمويل النفوذ وبقاء الوضع الراهن.
في أكتوبر الماضي، طالب أكثر من 25 حزباً بتكوين حكومة موحّدة وتعزيز دور الأحزاب في ضمان الشفافية والنزاهة المالية خلال الفترة الانتخابية
تتكامل هذه الحلقة المفرغة مع تصاعد التنافس الدولي على الموارد الليبية، فمن خلال اتفاقيات التعاون العسكري والاقتصادي، تسعى الدول إلى حجز نصيبها من الاستثمارات الوطنية الليبية، وتلبية حاجة الحكومات الليبية في إسناد ظهرها لحلفاء دوليين، فعبر الاتفاقات الثنائية، يتم توزيع الموارد حصصاً للشركات الأجنبية والدول. وبينما يجري الإعداد للانتخابات، توقّع الولايات المتحدة اتفاقيات اقتصادية وعسكرية لموازنة النفوذ الروسي، ليبقى عنوان السياسة الخارجية للبلدين متمثلاً في أولوية النفوذ على انعقاد الانتخابات.
الأحزاب والكتلة الحرجة
خلال مرحلة الجدل بشأن قوانين الانتخابات، عقدت عدة أحزاب ليبية أربعة اجتماعات، لتكوين موقفها من التشريعات والمشاركة السياسية. وفي 21 يونيو/ حزيران 2023، ناقش 17 حزباً سُبل تسهيل العملية الانتخابية لتكون أكثر تعبيراً عن الشعب ودعماً للنظام الحزبي. ولاحقاً، في أغسطس/ آب، التقت الأحزاب والقوى السياسية ولجنة الـ 90 في ليبيا على الدعوة إلى توحيد السلطة التنفيذية. وفي أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، طالب أكثر من 25 حزباً بتكوين حكومة موحّدة وتعزيز دور الأحزاب في ضمان الشفافية والنزاهة المالية خلال الفترة الانتخابية، بالإضافة إلى تعزيز المشاركة الاجتماعية في المسار السياسي.
وفي سياق دعم الأحزاب السياسية، عقدت المفوّضية المنتدى الأول، 19 يونيو/ حزيران 2023، للأحزاب والانتخابات، تحت شعار "الحزب الداعم والدافع للعملية الانتخابية"، لتنمية التكامل بين الأحزاب والمفوضية في الانتخابات، بعد تكاسل الأحزاب في الانتخابات السابقة، وخصوصا في مجال التوعية الانتخابية والمراقبة وتحفيز الناخبين للمشاركة.
قد تظهر خياراتٌ لتحويل الانقسام السياسي لتطلعات الفيدرالية والانفصال، وهو ما يتعزّز تحت الوعي بالغبن في توزيع الثروة والسلطة
ورغم تتابع الاجتماعات الحزبية، لم تظهر أجندة متكاملة للانتقال السياسي، فقد اقتصرت اللقاءات التشاورية على وضع جدول أعمال مؤقّت ومتداخل مع الأزمات القائمة، من دون البدء في التحوّل إلى قوة سياسية وسيطة بين الدولة والمجتمع، واكتفت بأن الحوار الوطني والمشاركة المتساوية كافية لحل المُشكل الليبي، ما يُضعف قدرتها على التأثير في مناقشات انعقاد الانتخابات.
ومع توقف خطوة تشكيل حكومة جديدة، مادّة 86، يتزايد احتمال إطاحة الجداول الزمنية، وخصوصاً مع مرور ما يقرب من 90 يوماً من إجمالي 240 يوماً، هي المدى الزمني لإجراء الانتخابات، وفي ظل عدم بدء الاجتماع التحضيري لاجتماع المائدة المستديرة، لا تبدو الفترة المتبقية كافيةً لتجاوز الواقع الحالي، وقد تظهر خياراتٌ لتحويل الانقسام السياسي لتطلعات الفيدرالية والانفصال، وهو ما يتعزّز تحت الوعي بالغبن في توزيع الثروة والسلطة.
وبشكل عام، يتوقّف نجاح تهيئة المناخ للانتخابات على حدوث تغيّر نوعي في العلاقات بين الفاعلين لفرض احترام القانون، ووفق سياقات قوانين الانتخابات، تظلّ عيوب المراحل الانتقالية ظاهرة في كل العمليات السياسية، سواء في التغاضي عن تناقض النظام الانتخابي أو الرضا بتقاسم الدولة، كما يساهم ميْل المكوّنات الليبية إلى الانقسام، سواء من القبائل أو الأحزاب والمؤسّسات، في حرمان ليبيا من الكتلة السياسية الحرجة لقيادة المسار السلمي.