معركة أميركا... معركة العالم
تتركّز أنظار العالم خلال الأسابيع العشر المقبلة على المعركة الانتخابية في الولايات المتحدة، والتي ينظر إليها على نطاق واسع أنها واحدة من أكثر الانتخابات تنافسية وأهمية في التاريخ الأميركي، نظراً إلى ما يترتب عليها من تداعيات داخل أميركا وخارجها. لقد بات واضحاً أن الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي (1946-1989) كانت تحجُب وراءها حرباً لا تقل شراسة داخل أميركا نفسها، فما إن انتهت الأولى بسقوط الاتحاد السوفييتي وإعلان انتصار الرأسمالية، حتى أخذ الانقسامان، الثقافي والسياسي، والفرز الاقتصادي والاجتماعي، يبرزان بقوة غير مألوفة في الولايات المتحدة، ابتداءً من السيطرة الكاسحة للجمهوريين على مجلسي النواب والشيوخ في الانتخابات النصفية لعام 1994 بعد طرحهم برنامج "العقد مع أميركا" (Contract with America) بقيادة الزعيم الجمهوري حينئذ، نيوت غينفريتش، وصولاً إلى حركة الشاي (Tea Party) التي تأسّست عام 2009 داخل الحزب الجمهوري، وجاءت ردّاً على انتخاب أول رئيس أميركي من أصول غير بيضاء (باراك أوباما) لتبلغ ذروتها اليوم مع حركة ماغا (Make America Great Again) بقيادة دونالد ترامب الذي تمكّن في مؤتمر الحزب الجمهوري أخيراً من حشد قوى اليمين الشعبوي والديني والقومي الأميركي لخوض معركة انتخابية فاصلة هذا الخريف في مواجهة قوى المعسكر الليبرالي واليسار.
لم يعد الصراع في الولايات المتحدة اليوم انقساماً سياسياً حول برامج اقتصادية واجتماعية، كما كان الحال في القرن الأخير، بل صار صراعاً ثقافياً وقيمياً بالقدر نفسه، حيث لم تعد قيم مثل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان قضايا خارج النقاش العام عند الديموقراطيين والجمهوريين على السواء، ففي حين بات جزءٌ معتبرٌ من الجمهوريين يفضّل الرأسمالية على الديمقراطية، ويعتقد بوجود تراتبية عرقية وثقافية بين البشر (بمعنى أنهم ليسوا متساوين) يسعى الليبراليون، في المقابل، إلى فرض قيم اجتماعية غير مقبولة لدى المحافظين. بات هذا الانقسام يهدّد استقرار أميركا، ويحمل، في طيّاته، مخاطر عالمية كبرى، حيث أخذت تيارات اليمينين، الشعبوي والقومي، على مستوى العالم، كما المتطرّفون الليبراليون على المقلب الآخر، تعتبر أنها معنيّة بالدرجة نفسها بما يجري داخل الولايات المتحدة. هذا يعني أن المعركة الانتخابية الأميركية باتت فعلاً عالمية (وربما كانت دوماً كذلك)، لكن ليس فقط لأن السياسات الأميركية تؤثر في العالم، بل لأن المعركة باتت اليوم، في شقٍّ رئيس منها، معركة أيديولوجية وقيمية أيضاً تجري داخل الدول والمجتمعات، وعابرة لها في الوقت ذاته.
تاريخياً، كان اهتمام غير الأميركيين بالانتخابات الأميركية يدور بشكلٍ رئيس حول الفروق في السياسة الخارجية بين الجمهوريين والديمقراطيين ومواقفهم من مختلف قضايا العالم. أما اليوم، وبسبب العولمة الثقافية، و"النزعات ما بعد الحداثوية"، والأثر العميق لوسائل التواصل الاجتماعي، فقد انسحب الاهتمام إلى قضايا داخلية أميركية لم تكن تحظى سابقاً بانتباه كبير خارج الولايات المتحدة. الصراع حول قضايا اجتماعية، مثل القيم الأسرية، والإجهاض، والمثلية، باتت اليوم قضايا عالمية عابرة للأديان والحدود والثقافات، حيث بات مألوفاً أن تجد أتباع ديانات وثقافات مختلفة في الخندق نفسه، مع أو ضد. لكن الأمور ليست بالبساطة التي تبدو عليه أيضاً، بمعنى أن العالم لا ينقسم اليوم إلى معسكريْن ثقافيين كبيرين (محافظ وليبرالي)، كما كان الانقسام أيديولوجياً خلال الحرب الباردة (رأسمالي واشتراكي)، إذ باتت الأمور في المرحلة الراهنة متداخلة وأكثر تعقيداً من أي وقت مضى، فالاتفاق على قضيةٍ ما لا يعني بالضرورة وجود توافق على بقية القضايا، ففي حين قد يتفق المحافظون من أميركا إلى إندونيسيا مروراً بروسيا والصين على قضايا معينة (اجتماعية في الأساس) تجدهم يختلفون على قضايا كثيرة أخرى، سياسية واقتصادية في جوهرها، مثل الهجرة والمناخ والموقف من القضية الفلسطينية وغيرها. وعلى هذا الأساس، تختلف مواقف القوى والتيارات السياسية في العالم من الانتخابات الأميركية، ففي حين قد يتعاطف طرفٌ ما مع ترامب أو هاريس لسببٍ ما، تجده يختلف معهما في شأن آخر. مهما يكن، ولأسباب وتقديرات مختلفة، يراقب العالم المعركة الكبرى الدائرة في أميركا اليوم، وكأنها معركته، فالكثير يبدو على المحكّ هذه المرّة.