معاقبة "أونروا" ردّاً على حكم لاهاي
حتى قبل إصدار محكمة العدل الدولية حكمها في الدعوى المرفوعة من جنوب أفريقيا حول الإبادة الجماعية في غزّة، وصف المختصّون من أهل القانون الدفاع الإسرائيلي أمام المحكمة "بالركاكة والضعف"، فيما جاءت مرافعة جنوب أفريقيا "متماسكة ومتينة وحُضّر لها جيّداً بالوثائق والصور والفيديو والشهادات والقوانين، ومبنية على حجج قويّة"، أي أن ما انتهت إليه المحكمة من قرارات، في السادس والعشرين من يناير/ كانون الثاني الماضي، باتخاذ اجراءات مؤقتة لتفادي التمادي في الجرائم الجارية كان مرجّحاً، حين لم تأخذ على محمل الجدّ دفاع الفريق القانوني لإسرائيل القائم على المطالبة بإسقاط القضية، بزعم عدم توفّر شروطها، وتسويغ العدوان على غزّة بوصفه "دفاعاً" عن النفس ضد حركة حماس ومنظمّات فلسطينية أخرى التي وصفها بـ"الإرهابية"
صحيحٌ أن المحكمة لم تدعُ إلى وقفٍ فوريٍّ للعدوان على غزّة، وما زالت تهمة الإبادة الجماعية لأهالي القطاع قيد النظر من المحكمة، إلا أن ما تحقّق إنجاز قانوني كبير لجنوب أفريقيا، وقبل ذلك وبعده، للقضية العادلة للشعب الفلسطيني. وبنظرة إلى ما خلصت إليه المحكمة من قرارات، نجد أن كل قرار منها يحمل إدانة ضمنية للكيان الصهيوني، ويُحمّله المسؤولية عما جرى ويجري في غزّة، وفي كل فلسطين، من جرائم. ولا يقلّ أهمية عن ذلك رفض المحكمة مطالبة ممثلي الكيان أمام المحاكمة بعدم قبول دعوى جنوب أفريقيا، حيث أكّدت المحكمة وجاهة الدعوى، وتوّفر الأدلة على جديّة ما تضمّنته من حقائق ومعطيات.
وما له دلالة قانونية ورمزية كبيرة أن قرارت المحكمة اتُّخذت بأغلبيةٍ ساحقةٍ من القضاة الذين نظروا القضية، باستثناء اثنين منهم، أحدهما قاضٍ معيّن من الكيان، وألزمت القرارات دولة العدو بتقديم تقرير بشأن ما اتّخذت من تدابير لتنفيذ ما طالبت به المحكمة خلال شهر من تاريخ صدور الحكم. ويفرض هذا مسؤولية كبيرة على المجتمع الدولي، حكوماتٍ ومؤسّساتٍ ومنظمّات دوليّة، بممارسة كل ما هو ضروري من أوجه رقابة وضغط على الكيان للامتثال لإرادة المحكمة.
شكّل القرار صفعة لإسرائيل، ولداعميها في الغرب، فنحن إزاء حكم قضائي محايد، صدر عن هيئة قضاة ينتمي كثيرون منهم، إن لم تكن غالبيّتهم، إلى بلدان غربية داعمة لإسرائيل في عدوانها، وفي مقدّمتهم رئيسة المحكمة أميركية الجنسية، التي انتصرت للضمير ومنطق العدالة، ولم يجد هذا الكيان وداعموه ردّاً على الحكم وإعاقة لتنفيذ بنوده سوى افتعال معركتهم مع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، حيث أعلنت 12 دولة غربية، بينها الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وإيطاليا وبريطانيا وفنلندا وألمانيا وهولندا وفرنسا ورومانيا والنمسا، بالإضافة إلى اليابان، قراراً يقضي بتعليق المساعدات المالية للوكالة، بعد ترويج مزاعم بضلوع بعض موظفيها في هجمات "حماس" في 7 أكتوبر، وفق تقارير إسرائيلية لا يمكن الاعتداد بصدقيّتها.
تعليق المساعدات للوكالة المذكورة مسعى مكشوف للتحايل على قرارات المحكمة التي طالبت بإيصال المساعدات إلى قطاع غزّة المحاصر والمُعتدى عليه وعلى سكّانه، علماً أن "أونروا" تأسّست لمساعدة الفلسطينيين بعد قيام دولة الاحتلال عام 1948، وبدأت عملياتها في مايو/ أيار 1950، لتقديم الرعاية "لحوالي خمسة ملايين لاجئ فلسطيني منتشرين في الأردن ولبنان وسورية والأراضي الفلسطينية المحتلة وقطاع غزّة، وتشمل خدماتها التعليم والرعاية الصحية والإغاثة والبنية التحتية وتحسين المخيمات والدعم المجتمعي والقروض الصغيرة والاستجابة لحالات الطوارئ في أوقات النزاع المسلح".
ليس افتعال إسرائيل المشكلات مع "أونروا" جديداً، فهناك تاريخ حافل من مساعي تل أبيب لإعاقة الوكالة عن أداء مهامّها الإنسانية، ومضاعفة معاناة الشعب الفلسطيني، خصوصاً في منعطفات الحروب، كالحرب غير المسبوقة في غزّة وتمادي دولة الاحتلال في بطشها، وهذا ما شهدت به محلّلة بارزة في مجموعة الأزمات الدولية مختصة بالشأن الإسرائيلي مؤكّدة أن "إسرائيل قالت قبل أسابيع إنها تريد خروج الوكالة من غزّة، ودأبت على بناء قضية ضدّها منذ مدة طويلة"، فجاءت المعركة الحالية كمحاولة لتنفيذ ذلك، وصرف الانتباه عن الحكم الصادر في لاهاي الذي أغاظ المحتلّين.