مصارحة في موضوع الشهادة
هل يمكننا أن نناقش موضوع الشهادة من منظور حياتي، أو بمنطق دنيوي بحت؟ أعتقد أن ذلك جيد، ومفيد، ولكنه صعب، لأن معظم الذين يتحدّثون في هذا الشأن يتكئون على جانبه الديني، إما لأنهم متدينون، ورعون، بالفعل، أو لأن هذا الاتكاء يحقق لهم بعض المكاسب. وإذا توخينا الدقة نقول: لا يوجد، بين مكونات الشعب، فريقٌ واحد لا يَعتبر مَن يُقتل من أبنائه خلال صراع سياسي عادل، أو عدواني، شهيداً. قبل أيام، قرأت سردية طريفة، تقول إن نظام الأسد قتل الصحافي اللبناني، سمير قصير، لأنه يعادي محور المقاومة والممانعة، ويخدم، عن قصد أو دون قصد، المشروع الصهيوني الاستيطاني المدعوم من الإمبريالية العالمية، وبالتالي هو ليس شهيداً. استلم الإعلام السوري هذه السردية، وراح يعكس الآية قائلاً إن سمير قصير شهيد، لأن إسرائيل هي التي قتلته. محبّو الرجل رفعوا القصة إلى مستوىً عال من الإبداع، فقالوا: نعم، إسرائيل قتلته، لأنه معادٍ للنظام السوري.
الحديث عن الشهداء يشبه، في أحد جوانبه، استقبال حجاج بيت الله الحرام، فمع أن الحج فريضة، حَوَّله الناس في بلادنا، عبر العصور، إلى طقس اجتماعي، تقرع لأجله الطبول، وتعلو الزغاريد، وتُفتح الأبواب ثلاثة أيام أمام مهنئين يدخلون، ويخرجون ويشربون من ماء زمزم، ويتلقون الهدايا، ويتناولون راحة الحلقوم المكتظّة بالفستق الحلبي.
في سنة 2011، ونحن في مدينة إدلب، والثورة مستمرة منذ شهرين تقريباً، دخل قطيعٌ من رجال الأمن الشبّيحة إلى جامع سعد بن أبي وقاص في الحي الجنوبي الغربي، وأطلقوا النار على المصلّين، وقتلوا شاباً من عائلة كريمة تقطن في المنطقة الجنوبية، فكان قتيلَ (أو شهيدَ) الثورة الأول. إلى هنا والخبر عادي، فالمخابرات والشبّيحة تأخروا في قتل أحد من أبناء مدينة إدلب، بينما كان عدد القتلى (الشهداء) في درعا وحمص وبانياس ودوما والأرياف المختلفة يعدّ بالألوف. في ذلك اليوم، ارتفع معدّل المشاركين في مظاهرات مدينة إدلب من ألف شخص إلى خمسة وعشرين ألفاً، دفعة واحدة. ومع ذلك بقي الخبر عادياً، لأن قتل الشاب أغضب المتردّدين، ففارت دماؤهم، وخرجوا غير مبالين بالمخاطر.. ولكن الأمر الذي أدهشنا أن أهل الشاب كانوا محتفلين باستشهاده، وكتبوا على واجهة سرادق العزاء "تهنئة آل .. باستشهاد ولدهم فلان". وخلال فترة قصيرة، قتلت قطعان الأسد شاباً من عائلة أخرى، وذهبنا لتعزيتهم، فوجدنا أنهم استنسخوا موضوع التهنئة من العائلة السابقة.
يعيدنا هذا الأمر إلى حديث لأديبنا الراحل ممدوح عدوان، استنكر فيه المَشَاهد التي كان التلفزيون السوري يعرضها بغية تمجيد الشهداء، إذ يلتقي بأهالٍ استشهد أبناؤهم، وكلهم، بلا استثناء، يُظهرون مشاعر الفرح لاستشهاده، (في حرب تشرين، أو في لبنان، أو بقصف إسرائيلي ما)، وهذا ينطوي على إظهار مشاعر مبالغ بها، تتجلّى، خصوصاً، بإظهار الأم الثكلى وهي تزغرد.
الخلل الاجتماعي الناجم عن الاحتفال بمقتل الأبناء (الشهداء) يكمن في ما سماه الأديب الفرنسي مارسيل إيمي "رؤوس الآخرين"، فماذا لو كان الشخص الذي قُتل أنا، وليس أخي أو جاري أو ابن بلدي؟ هذه الفكرة يمكن التعبير عنها بحكاية رواها أحد الأصدقاء، عن رفيق بعثي كبير ذهب لتعزية أهل أحد الشهداء، وقال لهم: ألف مبروك استشهاد ابنكم البار دفاعاً عن الوطن. رد عليه والد الشهيد ببراءة: عقبالكم يا رفيق.. فغضب الرفيق بشدّة، وخرج من السرادق وهو يبربر بالشتائم.
الشهيد الحقيقي، في نظر كاتب هذه الأسطر، هو الذي يموت في سبيل قضية عادلة. ولكن ما هو تعريف القضية العادلة؟ وماذا نفعل عندما نرى الإيرانيين وغيرهم يصفون قاسم سليماني بأنه شهيد؟ أو نرى أحد كبار علماء المسلمين السوريين في سنة 1994 يحلف أن القتيل باسل الأسد شهيد، شاهده في منامه محشوراً مع الأولياء والصدّيقين؟