مشي .. على سبيل التأمل

06 مايو 2021

(جاذبية سري)

+ الخط -

لا نأتي بجديد عندما نؤكّد على أن الأفكار تحب المشي، وأن المشي يحب الأفكار، وأن هناك علاقة ما بين الاثنين نستطيع أن نرصد شواهدها البسيطة والعميقة في الوقت نفسه من حياتنا اليومية وتصرفاتنا التلقائية في المشي والتفكير.

نستقبل في أثناء ممارسة المشي أفكارا كثيرة تنهمر كالمطر، حتى لنكاد لا نستطيع احتواءها كلها، فتنفلت منا بالتوازي مع الاستمرار في المشي.

اعتدتُ في شهر رمضان أن أضاعف من المسافات التي أمشيها يوميا، فأمشي قبل الإفطار وبعد صلاة الفجر بشكل منتظم ساعتين أو أكثر يوميا، وهو ما يجعلني أفكّر كثيرا بما ينهمر علي من أفكار، حتى وأنا أنشغل في أثناء المشي بسماع الكتب الصوتية أو محادثات تطبيق كلوب هاوس، فذلك كله لا يمنع سحب الأفكار من التجمع فوق رأسي، قبل أن تنهمر انهمارها المفاجئ السريع!

من أين تأتي الأفكار بالضبط؟ من الحياة كلها.. القراءة والمشاهدات والمحادثات والتفاصيل الصغيرة في اليوميات، ومما يحدث فينا وحولنا قريبا وبعيدا عنا.. كل شيء في هذا الكون الفسيح قابلٌ لأن يتحوّل إلى مصنع للأفكار، بغض النظر عن نوعيتها ومدى اهتمامنا المباشر أو غير المباشر بها. وغالبا ما تكون هذه إجابتي عن أسئلة متدّربي دورات الكتابة التي أهتم بها، حيث يسألونني في الساعة الأولى من التدريب على كتابة المقالات الصحافية ذلك السؤال السهل الصعب المكرّر؛ من أين نأتي بأفكار لمقالاتنا؟ وأقول لهم من الحياة كلها حولكم. كل شيء قابل للكتابة فيه وعنه ومنه.

وبالتفصيل في التدريب، نحاول أن نلتقط، عشوائيا، أي فكرةٍ عابرةٍ يحبون أن يصفوها بالتافهة، وأسميها بالبسيطة، لنبدأ بها، فنكتشف في أثناء التدرّب على الكتابة في العمق أن تلك الفكرة التافهة البسيطة، وقد تحولت فجأة إلى واحدة من أعقد أفكار الحياة وأعمقها، لمجرّد أننا عمقنا التفكير فيها، وحاولنا أن نصل بها إلى البدايات ثم إلى المآلات مرورا بما يمكن أن يؤثر فيها ويجعلها تؤثر فينا.

يحدث هذا في كتابة المقالات الصحافية وغيرها من الكتابات الأخرى، ولعلنا نتذكّر هنا شكل الشاعر في كلاسيكيات الدراما وهو يذرع المكان جيئة وذهابا، وهو في خضم إنتاج القصيدة، ما يجعل المشاهد يظن أن هذه الصورة التقليدية هي المثالية لحالة إنتاج الكتابة الإبداعية، وخصوصا الكتابة الشعرية. وعلى الصعيد الشخصي، أتذكّر واحدة من أحب قصائدي إلى نفسي، عنونها "فقدان"، لكنني سمّيتها لاحقا "مشية الإوزة"، عندما اخترتها لتكون عنوانا لكتابٍ يحتوي على أول ست مجموعات شعرية لي. في تلك القصيدة كتبت:

في الطرق الجانبية وحدها

أحاول أن أكون

أمسّد شَعري

المختبئ اضطرارا

أدسّ يدي اليمنى في جيبي

أمشي مشية الإِوَزّة

أطوح بحقيبتي

في الهواء الجديد

أغني ألحاني المرتجلة

لكن الطرق الجانبية

مزدحمةٌ بالعابرين أيضا

والإِوَزة لا تفقه لغة النمل!

وبعد سنواتٍ على صدور ذلك الكتاب، بعنوانه الغريب "مشية الإوزة"، ما زلت أفكر فيه بسياق الأفكار المنهمرة في أثناء المشي، لا باعتباره عنوانا لكتاب وحسب، بل باعتباره نظرية للمشي الحر على سبيل البحث عن الذات بالتفكير والكتابة.. والتأمل بينهما.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.