مسلسل مائة عام من العزلة

20 ديسمبر 2024
+ الخط -

بُنيت قرية "ماكندو" بعد ثورة جذرية ضد سَطوة الخرافات والعائلة، فقد هاجر خوسيه أَركادْيو بوينِديا وأصدقاؤه بحثاً عن وطن جديد، بعيداً عن موطنهم الأصلي. وبعد مرور سنواتٍ طويلة على بناء أوّل بيت، في نهاية رحلة متعبة دامت شهوراً؛ وبعد أن صارت "ماكوندو" بلدةً محترمة، بفضل سواعد المهاجرين الذين أنشأوا مجتمعاً منظّماً، جاء شخصٌ غريب، مدّعياً تعيينه حاكماً للبلدة.

مشهدٌ سوريالي طريف، تسقط فيه السّلطة على رؤوس النّاس، من حيث لا يحتسبون. هذا ما تفعله الحضارة بالإنسان، تفرض السّياسة حتى لو لم تكن هناك حاجة إليها. ولعلّها تستبقُ الحاجة، فالبلدة لم تشهد أولى وفياتها بعد، ولم تكن تحتوي على مقبرة. إذ كانت الحاجة إلى السياسة مسألة حتمية، لكن مؤجّلة، مثل الحاجة إلى المقابر. هكذا يكتسي الرفض وجاهة، لأنه يعارض مصدر السلطة وشكلها، لا وجودها بحد ذاته. إنه الخلاف الأبدي حول السيطرة، الذي يكرّر التاريخ فيه نفسه، حتى لو اختلف المكان والزمان، فهروب بوينديا وزوجته أورسولا من مصير شخصي تبين أنه لا علاقة له بالمكان الذي يضمّهما، كان هروباً عبثياً، إذ لاحقتهما الأشباح إلى الوطن الجديد.

هذه أولى الملاحظات عن مسلسل "مائة عام من العزلة"، المُقتبَس عن رواية غارسيا ماركيز، الذي عارض طوال حياته أيّ اقتباس سينمائي أو درامي لها. ولهذا واجه صانعوه تحدّياً كبيراً وسط توقعات متشائمة. ومع ذلك، نجحوا في تقديم تحفة درامية وصورة دقيقة لماكوندو، رغم وجود تحفظات على اختيار بعض الأحداث من الرواية دون غيرها. فإلى جانب شخصية الأب المؤسّس للقرية، اختار الكولونيل أورليانو بطلاً محورياً في القسم الثاني من الحلقات. رغم أنه كان يمكن أن يتوسّع في أدوار أخرى، فالمسلسل باعتباره شكلاً إبداعياً يُتيح مساحة كافية لتغطية تفاصيل المائة عام، لكن ربما كان مبدعوه خائفين من المغامرة، أو أنّها لعلها تجربة لقياس رد الفعل.

مُنح الأب مساحة كاملة لنرى تقلبات الشّخصية، رغم أن اختيار الممثل غير موفق، على عكس صاحب دور الكولونيل أورليانو الموفّق، رغم بعض الهنات في السيناريو. ومنها الانتقال السّريع في مراحل تستلزم بعض التمهّل، فصحيح أنّه مرّ بتغيرات وأحداث دفعته إلى الاستجابة لنداء الثورة، لكن لحظة انتقاله إلى التنفيذ، واعتماده لقب الكولونيل، افتقرت إلى زخم الإقناع. ورغم الأداء القوي للممثل في بعض المشاهد، إلا أن ملامحه لم تعكس، بشكل كافٍ، التحوّل من السلمية إلى حياة القائد الحربي الدموية.

وكان الأب أكثر إقناعاً في الدور، حين ظهر معلّقاً إلى شجرة، المشهد الشهير في الرّواية، والذي صار مشهداً ملحمياً في المسلسل، إلى جانب مشهد وقوف الكولونيل أورليانو أمام فرقة الإعدام، فالمشهدان معاً منحهما المخرج مساحة مركزية. بينما من هنات المسلسل، ضآلة حضور أهل القرية في الأحداث، فمنذ اندفاع خوسيه أركاديو الأول الذي بدأ بليلة زفافه المخيبة للأمل، ومشاركة أصدقائه في اختياراته المندفعة، بدت القرية في حالة من الفتور. وتجاهل المسلسل الشخصيات الثانوية، ما أفرغ المؤثر المحلي المتمثل في أهل البلدة من قيمته التفاعلية، فيما منح القادمين من بعيد مساحة شاسعة. فالحكّام الجدد والثوار الذين أحضروا التغيير إلى البلدة من الخارج، مُنحوا مساحة أوسع.

وقُدّمت عملية تزوير الانتخابات المؤدي الشرارة الأولى للثورة، بشكل يخلو من الحماسة والتشويق. فحتى الدّيكتاتوريات على مستويات ميكروسكوبية مثل قرية نائية، تحتاج حاشية وأعواناً كثيرين لتضخيم حجمها وشرعنتها. ويطرح المسلسل أمام المشاهد الفكرة التالية: ربما تحتاج الحضارة للسّياسة، وإلى تحديد مصدر السّلطة وتوحيده، لكن لماذا تبدأ بالدكتاتورية دوماً؟ انطلاقاً من طمع سلالة بوينديا في السلطة بأنواعها، حيث نتأكد من النظرية القائلة إن داخل كل إنسان بذرة تنتظر الفرصة لتُحوّله إلى طاغية.

في الرّواية، أنجبت سلالة بوينديا طفلاً له ذنب خنزير بعد بضعة أجيال، لتصدق النبوءات، لكن المسلسل اختار أن يكون المسخ أحد أبناء خوسيه أركاديو، وأفضلهم، وأن تكون وحشيته نابعة من تصرفاته، لا من شكله. لكن مع احتمال وجود موسم ثان، قد نرى مسخ ماركيز الذي يختم نسل سلالة درامية لاحقتها اللّعنة.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج