مسلسل "الزند ..." وجعبة الموروث
من المألوف والطبيعي أن تستمدّ الدراما بعض نصوصها من جعبة التاريخ والموروث، فذلك خطٌّ إبداعي متميز يتطلب جهدا كثيرا. وغالبا ما تظل عالقة في ذاكرة المتلقّي المحمّلة بكثير من الأعمال الدرامية العالمية والمحلية المميّزة التي تحاكي مفردات التراث وتستحضرها، وتعيد بثّ الحياة في كل تفاصيله من لغة وحوار وأزياء وطقوس، غير أن القليل منها، وعلى سبيل الاستثناء، يسرد الحكاية كما هي بدون مبالغات وحبكاتٍ مفتعلة، الهدف منها التشويق والإثارة. ولعل رائعة وليد سيف "التغريبة الفلسطينية"، من إخراج المبدع الراحل حاتم علي، المثال الأبرز على ذلك. وقد جسّدت بكل براعة الشتات الفلسطيني بواقعية وأمانة تؤكّدهما الوثائق التاريخية، بحيث تقترب من السرد التسجيلي، من دون المساس بعناصر الإبداع المطلوبة، من نصٍّ متماسكٍ وتصوير سينمائيٍّ مدهش وموسيقى تصويرية مساندة تعزّز الفرجة وأداءٍ تمثيليٍّ باهر جعل المتلقّي مشدودا إلى العمل، راغبا في إعادة مشاهدته أكثر من مرّة.
والحقّ أن مقاربة هذا الجانب محفوفة بالصعوبات دائما، لأسبابٍ فنية متعلقة بكلف الإنتاج الباهظة. وقد حفلت الدراما العربية بعديد من هذه الأعمال من حكاياتٍ تناولت حقبا تاريخية معينة وسير مشاهير من رجال دين وسياسة وفن وثقافة، فقد قدّمت الدراما المصرية أعمالا كثيرة تناولت مراحل تاريخية فاصلة، وسير شخصيات، مثل أم كلثوم، طه حسين، محمد متولي الشعراوي، غير أن معظم هذه الأعمال لم يكن دقيقا تماما، وقد قدّمت الشخصيات بصورة مثالية وملائكية واكتمال مستحيل التحقّق. كما لم تخلُ من المواقف البطولية الوهمية وانتصارات عسكرية لم تحدُث سوى في مخيلات كتّابها. ويمكن تصنيف ذلك بسهولة من باب التضليل واستعباط المتلقي والاستخفاف بحجم معرفته وقدرته على التميز.
يقودُنا ذلك كله إلى مسلسل "الزند... ذئب العاصي" الذي تعرّض، رغم جمالياته الكثيرة، إلى الانتقاد من بعضهم متهمين صنّاعه بالمبالغة في رسم شخصية العاصي (السوبر)، غير القابلة للكسر. يغفل هؤلاء عن حقيقة بسيطة، أن العمل، وإن استقى مادّته من الموروث، نصٌّ دراميٌّ متخيّل بالمطلق. وبالتالي، تصبح هذه المبالغات ضرورة درامية يقتضيها سير الأحداث، فيظل المتفرّج منحازا إلى البطل الشعبي الشجاع الصلب المقاوم للطغيان نصير الفقراء. وبالتالي، سيفرح بنجاحه في السطو على البنك العثماني ناهب الفقراء، ولا يناقش منطقية حدوث ذلك ببساطة، بل يبيح لنفسه الاستمتاع بتحقّق العدالة وانتصار الخير واندحار الطغاة، إرضاءً لحاجة نفسية غريزية.
لعلّ من المبكّر تقييم المسلسل، وقد وصل إلى منتصفه، غير أنه يمكن القول إنه أكثر الأعمال تكاملا وإدهاشا في الموسم الرمضاني الراهن. يسجّل لصنّاعه، تسليط الضوء على مناطق هامشية في الجغرافيا السورية وإنصاف الشخصية الساحلية التي طالما تناولتها الدراما السورية إمّا بشكل هزلي لا يخلو من تهريجٍ مثير للسخرية أو باعتبارها أداة البطش في يد السلطة الغاشمة، وفي ذلك تعميم مجحف وجوْر كبير ينال شرفاء قاوموا تجبّر السلطة الحاكمة ودفعوا الثمن قتلا وسجنا وتشريدا وتهجيرا. كما أنصف مسلسل "الزند ..". المرأة السورية، وقدّمها حرّة عزيزة، تأبي الضيم وتقاومه بكل قوةٍ وبأس. ويثبت الممثل السوري تيم حسن، مجدّدا، حضوره القوي المؤثّر ممثلا كبيرا بموهبةٍ استثنائية، قادر بكل يسر وسهولة على اعتناق ملامح الشخصية بإقناع كبير.
في المحصلة، سيظل مسلسل "الزند" علامة فارقة في تاريخ الدراما السورية والعربية، حتى لو كان عملا متخيّلا، لكنه نجح في تقديم حكاية شائقة، ضمن فضاءٍ جذّاب مستقى من الموروث، وقد حقق أعلى نسب مشاهدة في معظم الدول العربية المشتاقة شعوبُها إلى لحظة زهو وانتصار، لعلها تحدُث يوما ما.