مستقبل من تراث

31 يناير 2021
+ الخط -

يحتاج الطاغية إلى صورتين لإسباغ الشرعية على سلطته، الأولى قصيرة المدى للاستهلاك اليومي، والأخرى بعيدة المدى للتخزين في عنابر الذاكرة الجمعية. الأولى تحققها أدواتٌ سياسيةٌ وإعلاميةٌ موظفةٌ لهذه الغاية، من خلال إبراز أنشطته وتضخيم إنجازاته. أما الثانية فتمثل معضلة حقيقية للطاغية؛ لأنها تحتاج إلى شعراء ومثقفين ومبدعين لـ"تصنيم" الطاغية في الأذهان، فيكون على استعدادٍ لدفع الغالي والنفيس من أجل الظفر بمثل هذه الشخصيات، لأسبابٍ عدة، منها أن العمل الإبداعي يتمتع بقابليةٍ للخلود الذهني الذي يتماهى، بالضرورة، مع فكرة الخلود على عرش السلطة التي تعدّ هاجسًا دائمًا للطاغية، فضلًا عن أن الشرعية التي تتأتّى من شخصياتٍ مبدعةٍ تكون أغزر إقناعًا للشعوب من خبر صحافي يُرجّح الناس أنه مفبرك، أو نفاق يستدرّ التصفيق على المنابر.
عمومًا، لهذه المقالة مناسبة؛ إذ كنتُ قد عقدتُ محاكمة عابرة لمدائح الشاعر محمد مهدي الجواهري في طاغية الشام السابق حافظ الأسد، من خلال مقالة منشورة قبل مدة في "العربي الجديد"، وتحرّيت عبرها نقد ظاهرة تكرّرت كثيرًا في التاريخ العربي، أطلقتُ عليها مسمّى "تداول المثقفين" من الحكّام. وأسعدني أن المقالة لفتت انتباه قائمين على أحد البرامج الثقافية في قناة الجزيرة، ودفعتهم إلى تخصيص حلقةٍ بحثيةٍ عن هذا الموضوع، يتناولون فيها أنموذج الشاعر الجواهري، ودعيتُ إلى الإسهام فيه.
والحال أن لديّ كثيرا من الإدانة، المعتملة في صدري، لهذه الظاهرة المخجلة التي لوّثت جزءًا كبيرًا من تراثنا الشعري، وخصمت من رصيد شعراء كبار لا نزال نتغنّى بقصائدهم، وفي مقدمتهم المتنبي، الذي لا نختلف على إمارته الشعرية، لكن ثمّة كثير مما نتحرّج بالإفصاح عنه بشأن شاعرٍ أنفق سحابة عمره في التنقل ما بين حاكم وآخر، مادحًا وهاجيًا، يستميله "سيف"، ويطرده "رمح".
غير أنني عازم على الإفصاح في المقابلة عما نواريه في صدورنا، وسأقول إنني لن أفصل بين الشاعر وقصيدته كما ينادي بعض النقاد؛ لأن القصيدة السياسية موقف، ومن يرضَ بمدح حاكم عربيّ فقد زجّ نفسه، شاء أم أبى، في المنظومة السياسية لهذا الحاكم، علمًا أنها منظومة استبدادية بالضرورة؛ لأن المنظومات الديمقراطية لا تقبل حشر نفسها في مثل هذا التلميع الزائف، بل تستمدّ شرعيتها من صناديق الاقتراع وخدمة الشعب. أما المستبدّون الذين يحكمون "خارج الصندوق" فيسعون إلى التعويض بشراء الذمم، واستئجار الألسن، واغتصاب العقول.
ولن أتوانى عن التصريح بما قلته سابقًا، حيال التشكيك بوجود إشكالية "المثقف والسلطة" في بلادنا العربية، من دون تعميمٍ بالطبع، فعدا نماذج نادرة من المثقفين العرب الذين تطابقت مواقفهم مع نتاجاتهم، ومنهم من دفع حيانه ثمنًا لذلك، آثرت أغلبيتهم التماهي والتحالف مع السلطة، فذاب الفارق بين "الصوت" و"السوط"، وامّحى الفصل بين الهراوة والقصيدة؛ فالقمع غدا مزدوجًا ومركّبًا ومعقّدًا؛ وصار لزامًا على الضحية أن تواجه استبدادين معًا: سلطة الثقافة، وسلطة الطاغية.
والأنكى من هذا كله، يتمثّل بفداحة ما أحدثه تراث المدائح في مكونات الشخصية العربية التي لم تستطع حتى اليوم التخلّص من يقينيّات لم تزل تؤمن بها، من قبيل: "السيف أصدق إنباء من الكتب"، فمثل هذه الشطر الشعري، مثلًا، لا يزال متداولًا على الألسن باعتباره مسلّمة لا يجوز الطعن فيها، ما يجعلنا نتشكّك بإمكانية تسلّل الحداثة إلى العقل العربي، علاوة على أن تراث المدائح عزّز في نفوسنا النزعة الفردانية، ما جعلنا نشرّع الحكم الفردي ونسوّغه بكل محمولاته الاستبدادية، وهذا ما يدفع إلى التوقف أمام سؤال مشروع: هل في وسعنا أن نكتفي بجماليات التراث بمعزل عن أغراضه وآثاره الضارّة الغائرة في صلب الشخصية العربية، وهل يجوز تجميل القبائح بالمدائح، وأيهما الخاسر في مثل هذه المعادلة: الجمال الملوّث بالقباحة أم القباحة المطهّرة بالجمال؟
هذه الأسئلة سأطرحها في اللقاء، وقد أكون حادًّا بعض الشيء إن طالبتُ بالقطع مع كثير من هذا التراث، ليس لأنه محض تراث، بل لأنه لم يتحوّل إلى تراث بعد.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.