مزمار الحي لا يُطرب
مزمار الحي لا يُطرب. ويقولون أيضا إن لا نبي في وطنه، أو لا كرامة لنبي في وطنه، عبارة تسمعها كثيرا من شخصٍ يشعر بالغبن، لأن محطة أجنبية ما أجرت معه مقابلة أصبح يستحقّ عليها لقب "العالمي"، فنان أو كاتب أو عالم أو غير ذلك، بينما تجاهلته محطات وطنه. تسنّى لي اللقاء بكثيرين من هؤلاء العالميين الذين كان مبرّرهم جميعا للعالمية أنهم شاركوا في عمل ما أو أجريت معهم مقابلة ما أو ترجمت أعمالهم إلى لغة أجنبية ما، ولذلك هم عالميون لا جدال في عالميتهم، فهل هم عالميون حقا، وإن تُرجمت أعمال أحدهم إلى لغة أجنبية فهل صار يضاهي غابريل غارسيا ماركيز الذي ترجمت أعماله أيضا؟ أو إذا نال أحدهم براءة اختراع بحكاكة ظهر فهل أصبح يوازي نيقولاي تيسلا؟ وإن غنّى في دولة أجنبية، فهل سيصبح ديميس روسوس؟
في أثناء إقامتي في الولايات المتحدة، عرض علي أحد الأصدقاء مقالا كتبته إحدى الصحف عنه، وقرأته بفرح وغبطة لما تتحدّث فيه الصحيفة عن مواهب لدى صديقي، لم اكن أعرفها، ودفعت صحيفة أجنبية إلى الكتابة عنه، ولكن المفاجأة كانت تنتظرني عند نهاية المقال، حيث توقيع كاتبة المقالة، فنظرت إليه بعينين تطفحان بالدهشة، وقلت: ولكن هذه زوجتك. .. ضحك، وقال: نعم. .. وأضاف: أنا من كتبها وهي نشرتها باسمها.
هذه المقالة وغيرها تمت الإشارة إليها في لقاء أجراه تلفزيون محلي مع صديقي دليلا على عالمية صديقي الذي تتلخص كل إنجازاته بعدد من الحفلات التي رافق فيها أحد مطربي الأعراس في ولاية كاليفورنيا، وأصبح اسمه يتردّد لاحقا بوصفه فنانا عالميا لا يجادل أحد في عالميته. وبطبيعة الحال، فإن أحدا غير العرب لا يعرف عالميته، أما باقي خلق الله فمن المستبعد أن يكون نفر منهم قد سمع باسمه.
كاتب آخر غير معروف في بلده يترجم رواية له، يدفع أجر ترجمتها لأحد طلاب قسم اللغة العربية في معهد اللغات الأجنبية، ثم يدفع لدار النشر أجر الطباعة، ويحتفظ بالمائة نسخة التي طبعها في بيته، يهدي منها نسخة كلما أتيحت له الفرصة، ولكنه ينشر الخبر على وسائل التواصل. ولن يجد صعوبة في نشره على صفحات الجرائد، ثم ستظهر سيرته الذاتية، تتضمن "ترجمت أعماله إلى عدة لغات أجنبية"، ويصبح عالميا. أما العالِم النحرير الذي أصبح ندّا لمكتشف البنسلين، ألكسندر فليمنغ، فقد كان يكفيه لذلك صورة بمريول أبيض (لباس المخابر)، وهو يحمل أنبوبا لا ندري ما في داخله، ويتحدث عن منجزاته في مجال الأمصال، علما أن الصورة تكون مجرد "سيلفي والمجهر خلفي". وهذا ما يمكن قوله أيضا عن ممثلٍ اسـتأجرته شركة إنتاج ليلعب دور إرهابي في فيلم تنتجه فقط لأنه يملك شكل الشخص العربي.
مسيرة هؤلاء نحو العالمية تشبه زحف المتهالك عطشا إلى بحيرة السراب، وتعبّر عن عقدة نقص متأصلة في دواخلهم. ومثلما سيبقى السراب وهما بعيدا، ستبقى العالمية بالنسبة لهؤلاء حلما غير قابل للتحقيق، لأن وجودهم في الساحة الثقافية العالمية ليس أكثر من زركشةٍ تحتاجها هذه الثقافة لغاياتٍ تتطلبها مواقف ثقافية معينة، كالحاجة إلى مواطن يملك شكلا عربيا لدور عربي في مشهد هنا أو هناك. لا شك أن أشخاصا عربا وصلوا إلى العالمية، بوصفهم كتّابا أو فنانين أو علماء أو غير، والجميع يعرفونهم، ولكن هؤلاء لا يتحدّثون عن أنفسهم، لأن إنجازاتهم تتحدّث عنهم. ولا عالمية لمن يترجم كتابه لكي يطبع منه مائة نسخة تتعفن في القبو عنده، أو لتاجر يطبع عشر نسخ من مجلةٍ يصدرها ليثبت أنه رئيس تحرير.
العالمية عندما يبحث القراء عن منتجك الفني والثقافي للحصول عليه، لا أن تحشر هذا المنتج تحت أنف القراء. هذا النمط من الشخصيات لا يصلح لأكثر من كاراكترات مضحكة لأعمال كوميدية، ربما تصبح عالمية كنماذج كوميدية.