مرثية الصباح في دجى التطبيع

04 أكتوبر 2020

صباح الأحمد يضع إكليل زهور في موقع الجندي المجهول في موسكو (24/3/1981/Getty)

+ الخط -

أكان محض رثاء عربيّ لا يتعدى أيام العزاء وفسحة القبر وتعداد مناقب الفقيد ذاك الذي ضجّت به مواقع التواصل الشعبية منذ الثلاثاء الماضي، حزنًا على رحيل أمير الكويت، صباح الأحمد الجابر الصباح، أم كان شيئًا أبلغ من ذلك؟ أدري أن للحزن ضروبًا عند الرثاء، سيما إذا اقترن برحيل ساسة العرب، وأظهر تلك الضروب هو آخر نفاقٍ يحصل عليه الزعيم الراحل قبل مواراته التراب، غير أني شعرت بأن الحزن المبذول على شيخ الكويت كان مغايرًا تمامًا، فقد كان يحمل صدقًا حقيقيًّا في المشاعر، يندُر أن يحصل عليه أي زعيم عربي راحل، الأمر الذي جعلني أتساءل عن موجبات هذا الحزن على ضريح "شيخ الصباح" حصرًا.

يخالجني إحساسٌ بأن المرثاة، هذه المرّة، تحمل في ثناياها ضربًا عميقًا من الفقد، لا على الفقيد فحسب، على الرغم من أنه يستحق، بتاريخه المشرف وعروبته النقية، أزيد من ذلك، بل لأن رحيله تزامن مع حلول كارثة التطبيع مع العدوّ الصهيوني التي بدأت تستكمل عصفها بضرب عاصمتين عربيتين، فيما تنتظر عواصم أخرى دورها، بفضل رجال "بدّلوا تبديلًا" حتى آخر نخر في جسد العروبة.. وأتذكّر هنا فلسفة جدتي بمقولتها الخالدة: "المليح بروح والعاطل بظلّ". والمليح هنا "شيخ الصباح" الذي يُحسب له أنه لم ينخرط في ركب المهرولين نحو الفضيحة.

والحال أن الرفض الكويتي للتطبيع لا يقتصر على الشيخ الراحل، بل يشمل البلد بمؤسساته الرسمية والشعبية، وفي مقدمتها البرلمان الذي حافظ على أصالةٍ ديمقراطيةٍ عريقةٍ منذ عقود، وهذا ما ضاعف قلق المرثاة من أن يخدش الفقد تلك الديمقراطية التي بزغت نقيضًا عضويًّا لنكبة الاستبداد التي أنشبت مخالبها في بقية الخريطة العربية "الصغرى". كانت الكويت هنا هي "الكبرى" فعلًا، بديمقراطيتها التي وصلت إلى حدّ إقالة حكومات ووزراء، وصحافتها التي خرقت سقوفًا لم تجرؤ صحفٌ عربيةٌ أخرى على بلوغ عشرها، وتفرّدها باستقطاب خيرة الكتّاب والمفكرين العرب، فضلًا عن رموز نضال فلسطينية لم تكن تجد متنفسًا لها إلا في تلك الصحف والمجلات، من أمثال ناجي العلي الذي منحته "القبس" جرأة رسم "مؤخرة الخيانة" بأبلغ صورها، وغسان كنفاني الذي جعل من الكويت جزءًا محوريًّا في أعمال له، سيما رائعته الخالدة "رجال في الشمس". ساورت المفجوعين خشيةٌ حقيقيةٌ على هذه الديمقراطية التي تغرّد وحيدة في الفلاة العربية، أن تنطفئ بانطفاء الأمير الراحل، فلا تعاود شرارتها الوميض أو الانتقال إلى أصقاع أخرى، سيما وأن الكويت من الدول العربية القليلة التي لم تقف موقفًا مناوئًا لثورات الربيع.

وكان ثمّة ندم يعتمل في نفوس المعزّين، خصوصًا من اتخذ موقفًا سلبيًّا من احتلال الكويت إبّان الغزو العراقي، ولم تتجلّ له حقيقة الغدر الذي تعرّض له هذا البلد، إلا بعد "خراب مالطا"، ودمار بلد، واحتلال آخر من الغازي الأميركي. ولم تتنصل الكويت، بقيادتها وشعبها، من العروبة، ومن مساندة القضية الفلسطينية، عضّت على الجراح والخذلان، واستأنفت الإسناد والدعم، ورفضت التفريط والتنازل، فحقّ لها ندم المعزّين الذين كانت مراثيهم تتضمّن اعتذارًا صريحًا أحيانًا، ومبطّنًا أحايين أخرى.

هو ليس رثاءً فحسب، بل خوف مشروع على مستقبل عربيّ غامض، أحدثه رحيل زعيم كنا نأمل أن يظلّ شوكةً في حلق المطبعين والمتخاذلين؛ لأن نقصانه يعني زيادةً في كثرتهم، ولأن سقوط حارس واحد من حرّاس الحرية قد يفتح ثغرةً ينفذ منها المتربّصون بها، سيما وأن حريتنا "قليلة"، وأعداءها أغزر من زبد البحر.

قدر الكويت أن تكون الخريطة الكبرى في خريطتنا الصغرى، وأن تستطيل إلى أبعد من جغرافيتها الضئيلة، وأن تكون قامات رموزها أعلى من قامات أقزامٍ يحكمون بلادًا أكبر منها نيلًا وأبراجًا. وقدرنا أن نفقد زعيمًا كنا في أمسّ الحاجة إليه قبل أن تحطّ طائرة التطبيع في عاصمة عربية جديدة، لم تعصمنا إلا من أمواج العروبة والكرامة والحرية.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.