مرثيات أحمد جبريل الرّثة
كان الشاعر ممدوح عدوان يقول إن الموت ليس شهادةً في حسن السيرة والسلوك. وهذا أحمد جبريل يموت، ثم تتدافع شهاداتٌ في سيرةٍ وسلوكٍ حسنَين له، تفيض عن المعهود في ملمّاتِ مكلومين من أمثال محبّيه، لنلقى مثلاً ألوية الناصر صلاح الدين في فلسطين لا تكتفي بخلع صفاتٍ باهظة القيمة على المذكور، من قبيل أنه القائد الوطني الكبير، بل إن دوره الكبير لم يكن في مقاومة إسرائيل فحسب، وإنما أيضاً "أذنابها ووكلائها". وكان الظن أنه ليس من تقاليد "المبادرة الوطنية الفلسطينية" أن تشارك في فلكلورياتٍ فلسطينيةٍ كهذه، غير أنها أصدرت بياناً نعى "القائد الوطني" (أيضاً)، الذي "كرّس حياته وكل طاقاته للنضال الوطني من أجل حرية فلسطين". وإذا كان الرئيس محمود عبّاس قد هاتف نجل المتوفّى معزّياً، ففي الوُسع أن تُحسب هذه البادرة واحدةً من سجايا شخصيةٍ طيبةٍ فيه، غير أنه لن يكون في الوُسع غير استهجان السخاء في بيانٍ لحركة حماس، انكتب فيه إن "وفاة القائد أبو جهاد جاءت بعد مسيرةٍ حافلةٍ بالبذل والعطاء لوطنه وشعبه ولقضيته على مدار سنين طويلة".
ولعلها فرصةٌ يُحرزها من يتعقّب شهادات حسن السيرة والسلوك الوفيرة التي مُنحها أحمد جبريل، منذ فاضت روحه، قبل يومين فقط عن 83 عاماً، ليعرف مسمّيات مجاميع فلسطينية، اعتقدنا أن خرائط الزمن وتقلبّاته شيّعتها منذ زمنٍ إلى النسيان، لكنها تذكّر بنفسها في موقعة موت جبريل. فهذا "الاتحاد الديمقراطي الفلسطيني" (منشقّ عن الجبهة الديمقراطية)، يعلن أمينه العام، صالح رأفت، التعزية ليس فقط باسمه وباسم المكتب السياسي واللجنة المركزية، وإنما أيضاً باسم "جميع الرفيقات والرفاق في أقاليم الحزب وهيئاته ومنظّماته القطاعية في الوطن وبلدان المهجر والشتات". وفائض المهابة في هذا الانتفاخ كاريكاتوري، ولا أحد يقبضه على محمل الجدّ. أما "الجبهة العربية الفلسطينية"، واسم أمينها العام سليم البرديني (لمن لا يعرف)، فلم يُسعفها معجمها الشحيح إلا بأن أحمد جبريل "الفدائي الذي لا يهاب في الحق لومة لائم". والجبهتان، الديمقراطية والشعبية، جاء بياناهما على جبريل "نموذجاً" للقائد الوطني، وعلى رحيله خسارة "لشعبنا ولحركته الوطنية ولعموم المناضلين والمقاومين في منطقتنا ولمحور المقاومة ...". ولا تُصادف، أقلّه حتى كتابة هذه السطور، أي نعي من أي جهةٍ سورية، حكومية أو رسمية أو بعثية أو مخابراتية أو ...، لكنك تعثر على الليبي إياه، أحمد قذّاف الدم، يتأسّى على من "ربطته علاقةٌ نضاليةٌ مع الشهيد القذافي"، على ما يُعلمنا، و"يبقى نبراساً يضيء طريق الأحرار الذين عقدوا العزم على عودة فلسطين".
.. يعلنها عنوان هذه المقالة أنها مرثياتٌ رثّة، فالمتوفّى المتحدّث عنه لا يليق به غير نعته بأنه كان من غُلاة المعادين للوطنية الفلسطينية، بالتحاقه الذيلي بنظام الاستبداد والفساد غاصب السلطة في دمشق. وليس له من "مأثرةٍ"، في مسيرته، الحافلة حقاً بجرائم مشهودةٍ ضد فلسطينيين وسوريين ولبنانيين، تخرُج عن صفته "الخالدة" هذه. وأي "تبييضٍ" لسيرته، باستذكار التحاقه بالمقاومة الفلسطينية مبكّراً، ومزاولته قيادةً عسكريةً ميدانيةً طوْراً قصيراً في غضونها، وأداء فدائيين شجعان في فصيله عملياتٍ نوعية، وإدارته عمليتي تحرير أسرى، لا يغطّي على أدواره في غير موقعةٍ فلسطينيةٍ سوداء، بتكليفٍ مكشوفٍ من السلطة السورية ومخابراتها. منذ صنعت له الأخيرة "جبهةً" بغرض أن تكون المقابل لحركة فتح، في منتصف الستينيات، وفي ذلك الأرشيف ما يؤشّر إلى مسؤوليته في تورّط مباشر في محاولة اغتيال ياسر عرفات، وفي اغتيال ضابط فلسطيني، على ما قالت شهادات عارفين. ثم تابع المسيرة لمّا اعتصم فصيل جبريل هذا عن المشاركة مع الجيش الأردني والفدائيين في معركة الكرامة ضد إسرائيل. وتاليا، لمّا شارك في حصار مخيم تل الزعتر بإسنادٍ سوري، ثم لمّا ارتكب جريمته المشهودة في عمارةٍ في حيّ الفاكهاني في بيروت، للقضاء على خصومٍ فلسطينيين له، فأودى بنحو مائتي فلسطيني ولبناني. وتابع نضاله ضد عرفات والكيانية الفلسطينية لصالح حافظ الأسد في حصار طرابلس 1983. وبعدها، كان مغواراً في حربين شنيعتين على مخيمات فلسطينية في لبنان. واستكمل مساره هذا في المشاركة في تهديم مخيم اليرموك (وغيره) في سورية، عندما اصطفّ بصفاقةٍ ميدانيةٍ وعدوانيةٍ معلنةٍ ضد أشواق السوريين في التحرّر من الاستبداد وحكم عائلة الأسد.
هذه مقاطع موجزة من السيرة غير الحسنة لأحمد جبريل، شخصا آخر غير الموصوف في البيانات أعلاه.