مجرد نوستالجيا

15 اغسطس 2014

Photographer : Kelly Ryerson

+ الخط -


كل هذه المحطات التلفزيونية قدّامك بالمئات، من المغارب والمشارق، وبالألوان، وعلى الهواء مباشرة. مسلسلاتٌ فيها بلا عد، وبرامج لا تُحصى، وثرثراتٌ بلا نهاية، وفرجة لتضييع الوقت شاسعة. كل هذا يتيحه الريموت كونترول لك، لمّا تتجول أصابعك فيه، وبالتثاؤب الذي تود، إن أردت، ولتتسلى كيفما اتفق. لكنك، بالكاد، تأنسُ إلى بهجةٍ تتيسّر لك، ولا تقع على متعةٍ تُفرحك. كل الأرض أمام عينيك، لكنك تشعر بضيق العالم، ولا تحسُّ بأن شيئاً من الكون الذي يتوزّع على هذه الشاشات يرضيك.

كانت تقطيبة سناء جميل في مسلسلٍ بالأبيض والأسود تبهرك، وأنت ترتمي أمام التلفزيون الذي بقناتين اثنتين. كانت رواقية عبد المجيد مجذوب في مسلسلٍ لبناني تسحرك، وإذا ما توازت مع فصاحة هند أبي اللمع، فإن رعشةً من بهجةٍ تغشاك. يا الله، كم كان هبل ياسين بقوش يكفيك فرحاً أياماً وليالي، كما فتونة فريد شوقي وتحشيشة توفيق الدقن. أما ولدنة حسن يوسف ومقالب غوار الطوشة في حسني البورظان، ودلع سعاد حسني ووداعة زبيدة ثروت، فتلكم مباهج لا أجمل ولا أحلى، في مساءات ما بعد قراءة حيدر محمود أو نبيل المشيني نشرة الأخبار في الساعة الثامنة. كان الملك الحسين في تلك النشرات يسافر كثيراً، وكنا نغبطه، في خيالاتنا الغضّة، لأنه يركب الطائرات كثيراً. يحدث أن يهبط في هلسنكي أو طوكيو، ثم ثلج خفيفٌ يسقط على معطف إبراهيم شاهزادة، (أطال الله عمره)، وهو يبلغنا، من هناك، عن مباحثات الملك بشأن أزمة الشرق الأوسط.

تُرى، هل ثمّة، الآن، على أي فضائيةٍ عربية، من في سويّة زهير الكرمي، (رحمه الله) في تقديمه برنامجاً استثنائياً، اسمه "العلم والحياة"، عن قيعان المحيطات والأجرام في السماء والحمير الوحشية والأسود وطيور النعام وعن الكنغر والخرتيت، في بطاحٍ لم تعنِ لنا شيئاً أسماؤها، فثمة علمٌ غزير كان يبثه ذلك الرجل، في نطقِه عباراته بتؤدّةٍ لطيفة، وبلغةٍ رحبة ما زالت في مطرحٍ دافئ في الذاكرة. ومع كل التقدير لمذيعين بديعين (قليلين) في تلفزاتٍ عربية راهنة، ولأني دقّة قديمة ربما، فإني أحنُّ إلى طلات زاهية عناب وعفاف قضماني وسوسن تفاحة، يقرأن أخباراً أو يقدمن برامج، كنَّ من نجمات تلك السبعينيات على شاشة التلفزيون الأردني.

تلك الشاشة التي أذهب، هنا، إلى أيامٍ كان عمر قفاف فيها يُفرح المشاهدين (أو النظّارة إذا أفرطنا في الفصحى) بأدوار القروي والريفي في مسلسلاتٍ، فيها الحدوتة والمتعة. والعظةُ أيضاً، في ثلاث عشرة حلقة فقط، قبل المطمطة الموصوفة المعلومة لاحقاً. هناك، في تلك الأيام، كان حسن أبو شعيرة ومنى واصف في "دليلة والزيبق"، وكان نبيل صوالحة في "الأخرس والقلادة الخشبية"، وكان عبد المنعم إبراهيم في "حذاء الطنبوري"، وكانت زيزي البدراوي في "لقيطة"، وكانت قمر الصفدي وليلى طاهر وزهرة العلا في غير سهرةٍ ومساء، وكانت فطوم حيص بيص وأبو عنتر وأبو كلبشة في "صح النوم"، وكان عبد الرحمن آل رشي في "راس غليص"، وكان مروان حداد ورشيد علامة في "صالح المهول". أما محمود سعيد وسميرة توفيق في "فارس ونجود"، فإن بقايا خوفٍ في أثناء ذلك المسلسل ما زال ثاوياً في البال، على العاشق الولهان وهو يفتش عن المهر المستحيل في الصحاري والفيافي والليالي السود، ليتزوج البدوية المعشوقة. كان محمود أبو غريب وصلاح السعدني وصلاح منصور وهاني الروماني وعبد الله غيث وزهير النوباني وعادل عفانة. كان رافع شاهين، أيضاً، في "فكّر واربح" و"جرّب حظك"، برنامجي مسابقات بهيجين.

أولئك، وغيرهم، باقون في الذاكرة. يهجعون فيها براحةٍ وحب، فيما كثيرون أراهم في الكون الفسيح في مئة محطة تلفزيونية، مساءً، ثم يضيعون صباحاً، لا لمعة ولا فكرة ولا بسمة، بل غالباً ثمّة الكآبة إياها، وبغزارةٍ للأسف.

   

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.