مباراة للوحدة العربية
هل تحتاج الوحدة العربية إلى كرة قدم لتتحقّق؟ إذا كان ذلك كذلك، فحريٌّ بنا أن نحرق كتب ساطع الحصري، ومحمد عزة دروزة، وقسطنطين زريق، وميشيل عفلق، وغيرهم من رموز الفكر القومي، الذين نادوا بالوحدة العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر، وبُحّت أصواتهم وأدمغتهم، لكنهم ماتوا من دون أن يتحقق جزء يسير من الحلم.
أقول ذلك وفي ذهني يتردّد شعار "كرة القدم توحّد الأمة العربية"، عطفًا على البلاء الحسن الذي قدّمه منتخب المغرب في مونديال قطر، فقد استقطبت مبارياته حشودًا من المشجّعين العرب، وبما يفوق أعداد "أهل العريس" نفسه. والحال أنني لا أعرف مبلغ الجدّية التي اتسم بها هذا الشعار، وإنْ أرجّح، أنه جاء لضرورات التشجيع والتحميس، لأن عكس ذلك يعني تسطيحًا لمفهوم الوحدة، التي لم يعد ينادي بها أحدٌ إلا على المدرّجات.
ربّ قائل إن رموز العرب الذين نادوا بالوحدة سابقًا لم يشهدوا عصر كرة القدم وما تفعله في الشعوب حاليًّا، ولو قيّض لهم أن يعيشوا عصرها لربما استبدلوا نظرياتهم الوحدوية بنظرية واحدة قوامها: "الطريق إلى الوحدة يمرّ عبر أقدام لاعبي كرة القدم فقط".
كتبت في مقال سابق إن المونديال يشبه أحيانًا "العالم الموازي"، المقونن، أو "المدينة الفاضلة"، التي تبحث فيها الحشود عن حلم مفقود في عالمها الذي يسير فوق القانون، حيث لا قانون إلا قانون الغاب، ولا بقاء إلا للأصلح، ويمكن أن نضيف إليه أحلامًا جزئية أيضًا، لشعوبٍ كالشعوب العربية التي حلمت بالوحدة في عالمها الحقيقيّ، وعندما أخفق مبتغاها، استبدلته بالعالم الرديف الذي حقق لها ما أرادت، داخل الملاعب، على غرار من يرتاد السينما بحثًا عن بطل. وطوال عرض الفيلم يتقمّص شخصية البطل، وبعضهم تسيطر عليه الشخصية إلى ما بعد انتهاء العرض، فيخرُج إلى الشوارع ولديه إحساسٌ بأنه أصبح "بروس لي"، إلى أن يرتطم بمعركةٍ حقيقية، تعيده إلى عالم "الأرانب".
على أننا سنتجاوز الشعارات والمونديالات، لنسأل: أي وحدة عربية كان يطمح إليها هؤلاء المشجّعون فوق المدرجات؟ هل يقصدون الوحدة الاندماجية، مثلًا؟ أم وحدة مؤقتة تتحقق كل أربع سنوات ثم تعاود الانقسام؟ هل هي على استعدادٍ لفتح حدود بلادها للشقيق العربي، لا كضيف بل كمقيم، وتقاسم نصف الزاد والأملاك، والوظائف، والبيوت، ومقاعد الحافلات معه؟
ربما كان اللاجئون السوريون أكبر مثالٍ حديث العهد على ما نقول، فما حدَث لهم في بلاد "الأشقاء"، سيما في لبنان، يدلّ على مبلغ "الترحيب" و"التأهيل" بالشقيق العربي المنكوب. أما المهجّرون الفلسطينيون، الذين لم "يهضمهم" أي مجتمع عربي، على الرغم من مضيّ نصف قرن على نكستهم، وما يقارب القرن على نكبتهم، فذلك حديثٌ يطول، لكن يكفي أن مخيماتهم ما زالت أشبه بغرف الحجْر "غير الصحي" في بلاد "الأشقاء".
ربما أصبح حريًّا أن نعترف بأننا شعوبٌ تنظر إلى الوحدة برومانسية الحالمين الذين يتغنّون بالشعار عن بعد، لكنه عند المحكات الحقيقية ينقلب ليصبح عدوانيًّا، وخطاب كراهيّة مقيتًا، يضيق بالشقيق، ويحوّله إلى غريبٍ انتهت أيام ضيافته، وبات عليه أن "يستحي على دمه ويغادر".
أما في جذر السبب الكامن وراء هذه الازدواجية، فتلك روايةٌ أخرى، تحتاج إلى أزيد من مفكّر قومي لجلاء خباياها. وأبسطها على الإطلاق أن الشخصية العربية لم تغادر بداوتها بعد، فهي شخصيةٌ ذاتية، مولعة بالعزلة، والوجاهة، والسلطة، والتفرّد .. وتلك كلها عواملُ لا تستقيم معها الوحدة، بل القُطريّة، وهذا ربما ما سهّل مهمة ثنائي "سايكس بيكو"، اللذيْن وجدا في هذه الشعوب قابلية غريبة للتقسيم والتفتيت، ما دام يعني ذلك تفريخ أكبر عدد من الزعماء.
عمومًا... لا أدري عدد من وحّدتهم كرة القدم على المدرّجات، غير أني أعرف جيدًا عدد من فرّقتهم القطريات في الوطن العربي "الكبير".