ما بعد التقاعد

11 مارس 2024

(لمياء بلول)

+ الخط -

استيقظت المرأة الوحيدة الحانقة على نفسها وعلى الدنيا بأسرها بمزاج رائق، على غير عادتها منذ أُحيلت على التقاعد قبل بضعة أشهر بعد سنوات طويلة قضتها امرأة عاملة منتجة أمضتها في العمل في مؤسّسة حكومية، تدرّجت خلالها في السلم الوظيفي حتى شغلت موقعاً قيادياً أتاح لها أن تُصدر القرارات وتضع الخطط وتنال رضا رؤسائها بسبب تفانيها في أداء مهام وظيفتها، فاعتُبرت دائماً الموظّفة المثالية المبدعة الجادّة الملتزمة باللوائح والقوانين والتعليمات. 
حين قرأت اسمَها ذات صباح في قائمة الموظفين المُحالين على التقاعد، وقع قلبها ذُعراً، وأحسّت أن عالمها انهار وتداعى في لحظةٍ. دائماً كانت تخشى هذا اليوم، لكنها انغمست كليّاً في عملها، ومنحته كل اهتمامها، حتى إنها نسيت أن تعيش حياتها الطبيعية خارج أسوار الوظيفة، كأن تتزوّج وتُنجب مثل بقية النساء. ظلّت تؤجّل قرارها بالزواج، رغم تقدّم عرسان كثيرين لها لم يعودوا يطرُقون بابها، بعد أن وصلت إلى سنّ الأربعين، لكن ذلك لم يؤثّر بها كثيراً، لأن حياتها المهنية كانت مكتظّة بالسفريات والاجتماعات واللقاءات والدورات التدريبية والمؤتمرات المتخصّصة والإنجازات الكثيرة التي كانت تمنحها الثقة بالنفس والرضا عن الذات.
أعدّت قهوتها، بعد أن ألقت تحية الصباح على صور والديها الراحلين. سقت نباتاتها المنزلية يانعة الخضرة التي تعربشت على الجدران، فأضفت على منزلها الصغير بعضاً من الحيوية، ومنحتها سبباً لإحساسٍ خفيٍّ بالرضا عن نفسها افتقدته منذ تركت العمل وأصبحت تعاني من الشعور بالفراغ والوحدة وبأنها عديمة الجدوى، وأن حياتها بلا معنى أو هدف، ما أوقعها في اكتئاب شديد اضطرّها إلى اللجوء إلى طبيب نفسي شهير، وصف لها أقراصاً تحفّز هرمون الدوبامين الخامل في دماغها، كما قدّم لها نصائح عن ضرورة أن تشغل نفسها بهوايات واهتمامات جديدة تملأ وقتها، غير أن ذلك كله لم يُجد نفعاً، وظلّت على حالها حزينة منسحبة ناقمة. 
أهملت مظهرها، فلم تعد تزور مصفّف الشعر بانتظام كما اعتادت أن تفعل حين كانت على رأس عملها. فكّرت وهي تحتسي قهوتها على الشرفة، وتراقب أطفال الحيِّ وهم يستقلون الحافلات التي تقلّهم إلى مدارسهم، والأمهات والآباء متوجّهين مسرعين إلى أعمالهم، أنّ عليها أن تفعل شيئاً ما قبل أن تُطبق العزلة على ما تبقّى من روحها المتعبة. أخذت تتصفّح هاتفها علّها تعثر على فكرة ما تعينها على تنفيذ قرارها بالتمرّد على واقعها المملّ الكئيب، إعلانات مقاهٍ ومطاعم بعروض إفطار بأسعار متدنّية لم تتحمّس لأيٍّ منها، لأنها مثل جنرال ماركيز ليس لديها من يرافقها. وبالتأكيد، لن تذهب إلى مثل هذه الأماكن وحدها، فسوف يكون هذا مثيراً للرثاء. 
تابعَت مقاطع فيديو لنساء في مثل عمرها أقمن بعد التقاعد مشاريع صغيرة تشغل أوقاتهن، وتدرّ عليهنّ أرباحاً معقولة وتُشعرهن بالسعادة، غير أنها لا تتقن أي مهاراتٍ تُذكر، فهي طبّاخة رديئة، وهي غير معنيّة بالمجتمع المحلي، وليس لديها أي رغبة في تقديم أي خدمات عامة كما تفعل نساء كثيرات متأنقات حاضرات في كل المناسبات بكامل زينتهن وإقبالهن على الحياة، الحريصات على التقاط صورهنّ سعيداتٍ مشاركاتٍ فاعلاتٍ في احتفالات عيد الاستقلال، وعيد العمّال، وعيد الأم، ويوم المرأة العالمي. لا تفوتهنّ ندوة أو محاضرة أو معرض أو بازار خيري، نوعية من النساء لا تروقها ولا يمكنها أن تصبح مثل أيٍّ منهن ليقينها أنها لا تمتلك مواصفات سيّدات المجتمع المتحمّسات المتحقّقات الراضيات عن أنفسهن بلا سبب واضح، لكن فكرة التغيير ظلت ملحّة لم تغادر رأسها.
خرجت مسرعة من البيت، وتوجّهت إلى أقرب صالون تجميل، طالبة منه تغييراً جذرياً في هيئتها، تجوّلت في الشوارع بلا هدف، ثم عادت إلى البيت وقد تملّكها اليأس. شغّلت جهاز التلفزيون وأخذت تتابع أحداث مسلسل تركي أطول من الحياة نفسها الذي ظلّت مستمرّة في الخارج غير عابئةٍ بانكسارها!

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.