ماكينة خياطة تهتزّ فوق رأس امرأة

ماكينة خياطة تهتزّ فوق رأس امرأة

18 يناير 2024

(Getty)

+ الخط -

من يا تُرى يسند الحزن تحت نخلة ذاكرتي المليئة؟ امرأةٌ شابّةٌ تحمل ماكينة خياطة فوق رأسها وتمشي في شارع مزدحم بكل أنواع السيارات، الذاكرة مليئةٌ وتفيض، في خيوط الذاكرة وثقوبها عبقريةٌ غامضةٌ ورحمة أيضا، رحمة بنا، كي نُكمل الرحلة حتى نصل إلى ذلك البرّ الذي هناك ونخافُه أحيانا، ونشتاقُ له أيضا من طرفٍ خفّي.

فمن ذلك "الخُرم الضيق" بإبرة الماكينة "السينجر" القديمة كان الخيط الأبيض أو الأسود يمرّ من "مكوك" الماكينة، زاحفا بنعومة، ثم تنغرز الإبرة في جسد القماش بسرعةٍ، صعودا وهبوطا، فوق ثنيات القماش ما بين الأصابع، الماكينة دائرة مع أمّي حتى تنتهي من الثوب، وأحيانا يداعبها النوم الذي دائما تعانده وتغلبه في كل مرّة حتى يكتمل الثوب. ... كانت ليونة الخيط تُسعدها في المرور من الإبرة، وآه لو تعكّر مزاج المكوك وتعقد الخيط!

أسنُد ظهري أحياناً على نخلة ذاكرتي المليئة بالأسئلة، حتى بعد ما مرضت وكبرت هي، ولفّت الماكينة في بطانية قديمة وتركتها، الذاكرة مليئة بالعصافير واليمام الذي لم أصدّه أبدا، وكنت أحنو على الأعشاش، حتى وإن كانت فارغة.

تظلّ أعشاش الذاكرة عامرة بالبركة، فقد يداعبها مرور امرأةٍ صغيرةٍ فوق رأسها ماكينة خياطة وأنت هناك تجلس، كيف ترتّب الذاكرة نفسها فينا ثم تنادي علينا ونحن في غفوة من الأيام تحت نخلتها، فتكتب عن ذلك الذي طوي من 50 سنة فينا، وقد ظننا أنه قد مات أو انطمس؟

ماكينة خياطة تنكش صباحا في خيوط الذاكرة، فتهتزّ نخلة الذاكرة خلف ظهرنا سعادةً، وتجود علينا السبائط بالرطب، الناس هم الناس، ولكن هناك زحاما ما، وارتباكةً ما، ووحشة، وكأن ما ضاع منا يصعُب الحصول عليه أبدا.

تقسو كل الأشياء، وتبقى الذاكرة تسند ظهرنا من الوحشة، الأعياد ولياليها وأم سهرانة مع الخيط إلى ما بعد خيوط الفجر، كي يخرج الثوب للملهوف والمشتاق للعيد، وخصوصا العيال والبنات زينة الدنيا والعيد أيضا، وأحيانا نستعجل الخيط في ليلة العيد أن يمرّ بسرعة من "خُرم الإبرة" حتى ينتهي الثوب ونجري إلى النخيل.

هدوء كان هناك حيث كنّا، وسرعة هنا ووحشة أيضا، ثمّة وحشة ما مركونة في قعر جيب الثوب، ويزيد كل يوم من تربّصه بنا، حتى ونحن نجلس في هدوء.

الشوارع كمسرح عبثي لتجريب السرعة والغضب وقلة الأدب أحياناً والعراك أيضا، سهل على الأمهات توريث بناتهن أحزانهن، وصعّب عليهن أن يورثن العيال ذلك الحزن، فكنّا مثل عصافير نطير إلى هناك ولا نسألهن عن ذلك الحزن، إلا بعد ما كبُرنا، نجلس هكذا في هدوءٍ نتأمل الدنيا وأحوالها المبعثرة، فتمرّ علينا امرأة شابة فوق رأسها ماكينة خياطة، فنعودُ إلى ذلك الخيط، خيط أحزانهن الليّن الرقيق، وهو يمرّ من المكوك إلى خُرم الإبرة سريعا أو يتعطّل في قلب المكوك، فتحاول الأم في الخيط، خيط حزنها، حتى يعتدل الطاب في يدها، أو تحمل الماكينة في المغرب فوق رأسها وتمشي وحيدةً إلى دكّان "الأسطى زكريا" أو الأسطى اسكندر، وتظلّ الماكينة هناك يوما أو يومين، وهي في قلق.

خيط أحزاننا غامضٌ جدّا هذه الأيام، من دون أن نعرف سبب تعطّله داخل المكوك، ومن دون أن نصل نحن بأنفسنا إلى حلّ، هل العالم بات أكثر غموضا من 50 سنة مرّت علينا وكنّا نسند ظهورنا على بركة نخيلنا، حتى وإن كنّا لا نمتلك إلا القليل أو الستر فقط.

أعوام تمرّ بسرعة شديدة، كما كان يمرّ الخيط بسرعة في "خُرم الإبرة"، ونجلس كي نحصد البركة في آخر الشوط، فينطّ أمام عيوننا عصفورٌ حيران في المقهى، يبحث عن فتاتٍ كما كنّا نفعل تحت النخيل، العصفور يمشي في خُيلاء، ونحن نمشي في حزن وأسئلة، والمزاج يهيم من دون أن تسنده نخلة أو حكاية أو مودّة.

يظلّ العصفور في حيرة وفي خيلاء، ونحن هناك فوق الكراسي حزانى وفي أسئلةٍ لا تحلّ أبدا.

في لغز نحيا رغم كل نشرات الأخبار، ووحدها في الصباح امرأةٌ شابةٌ تمرُّ في الشارع وفوق رأسها ماكينة خياطة تداعب هذا اللغز، لغز عالمنا، فيزيد غموض الذاكرة تعبا، وبعد ذهابها، يكتبُ القلبُ بعض ما فيه، ويرتاح قليلاً من تعبه.