ماكرون: بين نابوليون وميكافيللي

23 مارس 2024
+ الخط -

لم يكن أحدٌ ليعتقد أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سيتقمّص شخصية نابوليون بونابرت في دعواته المتكرّرة لدعم أوكرانيا. منذ أسابيع، يعمل ماكرون بوتيرة تصاعدية، بدأت بعدم استبعاد إرسال قوات غربية إلى أوكرانيا، ووصلت إلى حد التحذير منذ يومين من أن "سقوط أوكرانيا ستكون له تداعيات مباشرة على فرنسا، ومن المهم أن يفهم شبابنا معنى الحرب في أوكرانيا"، وأشار إلى أن الحرب "تبعد 1500 كيلومتر عن حدودنا... ليست بعيدة كثيراً".

بالعودة إلى عام 2017، فاجأ ماكرون أوروبا والعالم بفوزه الرئاسي، موحياً بقدرته على إخراج فرنسا من سنوات التيه مع نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند. وحاول استنباط سياسةٍ غير عدائية مع روسيا، سواء بسعيه إلى صياغة "شراكة استراتيجية" مع موسكو، أو بقوله لنظيره الروسي فلاديمير بوتين، خلال اللقاءات الأخيرة قبل بدء روسيا غزو أوكرانيا في 24 فبراير/ شباط 2022، إن "أوروبا تمتدّ من الأطلسي إلى جبال الأورال"، أي الجبال الواقعة في العمق الآسيوي من الجغرافيا الروسية. حتى أنه بعد بدء الغزو، ظلّ ماكرون على تواصلٍ دائم مع بوتين، رافضاً ما وصفه "إذلال روسيا".

عامان كانا كافيان لتغيّر موقف ماكرون، بل بات ينتقد ألمانيا لإحجامها عن إرسال صواريخ "تاوروس" إلى أوكرانيا، وداعياً إلى شبه ثورة عسكرية أوروبية دفاعاً عن أوكرانيا، سيؤدّي نجاحها بطبيعة الحال إلى "إذلال روسيا"، لأن "هزيمتها ضرورة" وفقاً لسيد الإليزيه. لماذا إذاً تغير موقف ماكرون من روسيا؟ قد يكون ذلك لأسبابٍ انتخابيةٍ بحتة، متعلقة بالانتخابات الأوروبية المقرّرة في يونيو/ حزيران المقبل، فإن صدقت استطلاعات الرأي، سيحلّ حزب ماكرون، (النهضة)، ثانياً في فرنسا خلف "التجمّع الوطني" اليميني المتطرّف بقيادة مارين لوبان.

لكن الانتخابات بحدّ ذاتها ليست سبباً جوهرياً لرفع ماكرون قبضتيْه أخيراً في صورة مزدانة باللونين الأسود والأبيض، وهو يمارس تدريبات الملاكمة. ماكرون، الذي حاز شهادة الدراسات المعمّقة في بحث عن جورج فريدريش هيغل ونيكولو ميكافيللي، فيلسوف فقيه وعمل مع الفيلسوف بول ريغور، فتأثّر به وبمفاهيمه عن التاريخ والهوية والبراغماتية، ما استولد خطّاً سياسياً ماكرونياً مغايراً لليمين واليسار التقليديين في فرنسا. غير أن "الماكرونية" بشكلها الحالي ستخرج من الإليزيه بخروج سيّدها في عام 2027، مع نهاية ولايته الثانية والأخيرة. لن تدوم كديغولية حافظت على وجودها في وجدان فرنسا.

يحتاج ماكرون لصياغة هوية جديدة، عنوانها أوروبي بالأساس، وسلوكه تجاه ألمانيا، قاطرة الاتحاد الأوروبي الاقتصادية، يعبّر عن مغالاة في التمسّك بالمبادئ الأوروبية، بما يُظهر ماكرون وكأنه ضنين على وحدة القارّة العجوز، على حساب ألمانيا. وأوروبية ماكرون تبقى مفتاحاً له لمرحلة شخصية مستقبلية بعد عام 2027. لا تنسوا دراسته ميكافيللي. وروسيا تقدم له كل الحوافز لتسيّد قيادة أوروبا. مع كل كلمة ينطق بها مسؤول روسي، مهدداً الجنود الفرنسيين الذين سيُنقلون إلى أوكرانيا بالقتل، ومع كل وعيد من بوتين حول اندفاع العالم إلى حرب عالمية، نووية هذه المرّة، بسبب فرنسا، يكنزُ ماكرون المزيد من الأرباح، التي ستجعله "القائد" الذي تبحث عنه أوروبا لحمايتها من الآتي من الشرق.

لم يحمل ماكرون بندقيةً في حياته، بفعل عدم خضوعه للتجنيد العسكري في بلاده بسبب دراساته العليا، لكن استعداده للتحوّل إلى أول قائد حربي في البلاد، بعد عقود من حقبة الجنرال شارل ديغول، يكشف عن جوهر تطرقه في أحاديث سابقة في السنوات السبع الماضية إلى "إنشاء جيش أوروبي"، و"صياغة أمن مشترك"، و"بناء استراتيجية أمنية"، وهو رغبته في عسكرة أوروبا، لا فرنسا فحسب. ولعلّ الرسائل التي ذُيّلت بتوقيع عسكريين، متقاعدين وحاليين، في عام 2021، وُوجّهت لماكرون، قد حان وقتها بالنسبة إليه، إنما لإبعادها عن التسبّب بحربٍ أهلية في فرنسا ورميها على خطوط التماسّ الجديدة التي ستنشأ مع روسيا. لكن أقلّه بعد الألعاب الأولمبية الصيفية، المقرّرة في باريس، الصيف المقبل.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".