ماذا يحدث لو توقفت الشبكة نهائياً؟
من يتذكّر فقرات "هواة المراسلة والتعارف" في الإذاعتين الدوليتين، مونت كارلو ولندن، في منتصف سبعينيات القرن الماضي، ولم تكن الكهرباء قد وصلت بعد إلى قرى وبلدات سورية كثيرة، وكانت أجهزة الراديو تعمل على البطارية، وتتعب أصابعنا من تقليب المفاتيح الدائرية بحثا عن صوتٍ بلا تشويش. أظنهم، أبناء جيلي السوري والعربي، يتذكّرون جيدا تلك المرحلة. أتذكر قريبةً لي، لا صديق لها سوى الراديو والرسائل التي تصل إليها بانتظام من "أصدقاء"، تعرّفت إليهم عبر الأثير وتراسلهم دائما. أتذكر أن أحد هؤلاء زارها مرّة، قدم من قريةٍ في أقصى الشمال السوري إلى قريةٍ في جبال الساحل في ذلك الزمن، قبل أن تعبّد الطرقات الفرعية، وقبل أن تظهر "الأوتوبيسات" الحديثة، جاءها متنقلا في باصات "الهوب هوب"، وبقي في ضيافة عائلتها ثلاثة أيام، كانت الحياة، في ذلك الوقت، تبدو لطيفةً وبسيطةً وخالية من الهموم.
أنا أيضا من الجيل الذي عاصر إرسال المقالات إلى الصحف عبر البريد أو باليد. كان والدي يكتب مقالاته ويضعها في مظروف بريدي ويضع عليها الطوابع اللازمة، وهذه كانت في كل بيت تقريبا، ثم يطلب مني أو من أخي النزول من البيت لوضعها في علبة البريد، إن لم يكن هو في مزاج جيد يسمح له بالذهاب إلى الصحيفة وتسليمها باليد. لاحقا، شهدنا عصر الفاكس، حيث ترسل الأوراق المكتوبة بخط اليد أو المطبوعة على الآلة الكاتبة إلى عنوان ما عبر آلةٍ مرتبطةٍ برقم هاتف، لتبدأ بالظهور في المكان المُرسل إليه بعد دقائق. .. أليس هذا هو السحر بعينه؟ غير أن الخيال البشري يتفوق على السحر حقا، إذ سرعان ما تطوّر الفاكس ليصبح جهاز كومبيوتر منزليا موصولا لاسلكيا بما سميت "الشبكة العالمية"، وظهرت "الإيميلات" لتحتل مكان أرقام الهاتف في الفاكس. صرنا نكتب بدون حبر ولا أقلام، ونرسل رسائلنا عبر الإيميل لتصل إلى المرسل إليه في الثانية نفسها. ثم أصبح الكومبيوتر أصغر حجما، ويمكن حمله إلى أي مكان. وهكذا حتى ظهور وسائل التواصل والهواتف الذكية، وكل ما جعل من حياة البشر بالغة السهولة واليسر، لكنها تفتقد إلى الحميمية والدفء، وربما الرومانسية التي كانت مرتبطةً إلى حد ما بالمشقّة، أو ربما هو حنيننا الشخصي فقط من يرى في تلك المرحلة شيئا من الرومانسية، بينما تراها الأجيال الجديدة، التي تستخدم التقنيات الحديثة منذ طفولتها، نوعا من السذاجة، أو الأمية التكنولوجية والعجز عن التأقلم مع الحداثة ومواكبة التطوّر التقني والعلمي الحالي.
كشف العطل الذي طرأ على وسائل التواصل ست ساعات قبل أيام الثغرة التي نتجاهلها جميعا، إذ بغض النظر عن سبب التوقف ذاك، فإن تأثير المجال المغناطيسي للكواكب الأخرى يمكنه، في أية لحظة، أن يعطّل الشبكة نهائيا، وبشكل كامل لا جزئي، كما حدث، وهذا أمر يتحدّث عنه العلماء والخبراء دائما، ولو حدث هذا فعلا، فإن خسائر البشرية سوف تكون مهولةً وأكثر بكثير من أن تُحصى. كل ما في حياتنا حاليا مرتبط بهذه الشبكة، بدءا من ألعاب الأطفال مرورا بالعمليات الجراحية، وليس انتهاء بالحروب، ولا باكتشاف مزيدٍ عن الكواكب الأخرى. لا يوجد حاليا أي مجال في مجالات حياتنا لا يرتبط بها. تخيّلوا لو توقف هذا كله فجأة وإلى الأبد، ما الذي سوف يحصل؟ هل ستتوقف حياة البشر، أم ستعود إلى نقطة الصفر وتبدأ من جديد؟ معلومٌ أن قدرات العقل البشري لا تحدّ، ويمكن للبشر استخدام ما لم يستخدم منه بعد. لكن، هل سيتمكّن البشر من الـتأقلم والتعود على حياةٍ خاليةٍ من كل ما نعيشه اليوم؟ شخصيا، أثق بقدرة العقل البشري. واثق أن توقفا كهذا، حتى لو حصل، سوف يتم التغلب عليه. واثق أيضا أن الكائن البشري يمتلك قدرةً فائقةً على التأقلم مع كل ظروف الحياة، حتى الأجيال الجديدة التي تعيش، حرفيا، معتمدةً على التقنيات الحديثة، سوف تتمكّن من التأقلم على نمط حياة "بدائي"، ربما ما تحتاجه البشرية كلها حاليا هو توقف في الشبكة مدة أطول بكثير مما حدث قبل أيام، لرصد سلوك البشر وشكل الحياة في طارئ كهذا.
سألت أمي التي تعيش في سورية إن كانت قد انتبهت للتوقف إياه، أجابتني ضاحكة: "نحن نعيش في انتظار الكهرباء، كيف سننتبه إن توقف النت أو توقف فيسبوك، فليتوقف كما يشاء، لا أحد هنا يبالي".