مؤنس الرزاز .. لقمان سليم

05 فبراير 2021
+ الخط -

لم تُسمع أصواتٌ للرصاصات الأربع لمّا رميت على رأس الكاتب والناشط والناشر اللبناني، لقمان سليم، ولا للخامسة التي راحت إلى عنقه. ردّد من تابعوا النبأ، أخبارا وتعليقات واستفظاعات، إنها رصاصات كاتم صوت. تُرى، هل هو المسدّس كاتمَ صوت، أم أن من كتبوا هذا أرادوا المجاز فأحسنوه، عندما افترضوا أن القاتل هو نفسُه كاتم صوت؟ لا أحد كان في موقع الجريمة، حيث عُثر على لقمان في سيارته مقتولا. لم يكن إلا القاتل الذي ابتعثه من ابتعثوه لوظيفةٍ وحيدة، أن يكتم صوت ضحيته، فقد كان هذا الصوت، لمّا كان صاحبُه يجهر بالذي يراه في حزب الله وفي لبنان، مزعجا ومقلقا، فاستحقَ، في عرف الذين استقرّوا على كتم صوته تكليف صاحب تلك الرصاصات بالمهمّة التي أدّاها.

نعرف عن لقمان سليم، أين أقام ومن تزوّج وماذا درس وأين وماذا كان يعمل، لكننا لا نعرف شيئا عن الذي كتم صوته. هل كان يُنجز واجبا وظيفيا فحسب، أم بادر إلى ما فعل ببواعث فيه؟ ماذا تعلّم وأين، ماذا كان في صباه إن كان شابا، وماذا صنع في حياته إن كان خمسينيا مثلا؟ هل هو متديّن؟ هل هو متزوّج ولديه أولاد؟ هل قرأ في الفلسفة والتاريخ والأدب ما يسّر له قناعاته التي جعلته يقتل لقمان سليم، أم سمع فقط ممن شايعهم ووالاهم؟ هل قتل غير لقمان؟ ...؟ أسئلة تتدافع قدّامك، وأنت تنظر في الصورة الشنيعة الأخيرة للكاتب اللبناني، جثّةً في سيارة. لا يزيد واحدُنا في الطنبور وترا لو رجّح أن سلطات الاختصاص في لبنان لن تصل إلى القاتل. ولو افترضنا، جدلا وحسب، أنه أمكن التعرّف إلى الجهة التي دبّرت الجريمة ونفّذتها، وأنها عرفت الفاعل، فإنها لن تحفل بإجاباتٍ عن أسئلةٍ كتلك، فالإجابات المحتملة ربما تغوي مخيّلات أهل الرواية والقصة.

فعلها صديقنا الروائي الأردني الراحل، مؤنس الرزاز، وكتب روايةً بديعةً للحق، واحدٌ من شخوصها المركزيين كاتم صوت، قاتل، يكلّف باغتيال فيفعل. تعرّفنا الرواية به، بكل حاضره وماضيه، بما كانه قبل أن يصير كاتم صوت، وبما أصبح يمرُق في خيالاته من هواجس، بما قرأ، في "كليلة ودمنة" مثلا، بما درس في الجامعة، بكل شيء عنه، عن زوج أمه مثلا، عن عدم شربه الخمر، عن قناعته بأن "الزنى مصعدٌ سريع إلى جهنم، أما القتل فهو حرفة"، اسمه يوسف. جعله مؤنس يستأجر بائعة هوى، لتسمع منه، ليحدّثها، ولا أمر آخر. لكنها صمّاء تحدّق في شاربه الكثّ، وتسأل نفسها عن سبب عدم رغبته بجسدها. ليست الرواية عن كاتم الصوت هذا وحده، وإنما أيضا عن أسرة ضحيّته، تقيم في بلد عربي لا يسمّى، كبيرها محتجز في إقامة جبرية، لكن يوسف بطلٌ رئيسٌ في رواية "اعترافات كاتم صوت" (طبعتها الأولى في 1986، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت)، ويتخفّى فيها مؤنس وراء هذه الشخصية، وهو يبثّ مونولوغاتها، ويزاول "تشريحا" لها من داخلها. أفسح لجميع من في روايته أن يسردوا عن أنفسهم، فحضروا بضمير المتكلم لكلّ منهم، بل إنه مؤنس نفسه يحضُر، مؤلفا، بصوته، في مختتم الرواية، ويحضر القارئ أيضا.

يأتي يوسف، من البلد غير المعرّف، حيث "الختيار" في إقامته الجبرية في منزله، إلى لبنان، ليزاول مهنته كاتم صوت. يقول: "سوق وظيفتي مزدهر في بيروت، وأسهم سلعتي رائجة". إنه في حاجةٍ إلى أن يكون ظلا لكائنٍ قوي، وامتدادا له، "كائن يُكملني وأكمله، يحتاجني وأحتاجه، وفي بيروت حقّقت حلمي هذا". يخبر سيلفيا (أو سلافة) بأنه "لم يعمل كاتم صوتٍ من قبل، لكنه كان مهيئا لهذه الوظيفة المزدهرة". يعطي مؤنس الرزاز كاتم الصوت هذا صوتا في الرواية، يمنحه حق الحكاية، ولكن أمام صمّاء، في إيحاءٍ بعزلته. يقول هذا عن نفسه "حين أموت، لا أريد أن أترك سطرا في كتاب التاريخ، ولا فاصلة، ولا ضمّة".. يعرف أنه قليل، وصغير، ووضيع. يقول: "لا أشعر بالخجل حين أعترف أنني لا زلت حتى اليوم أشعر بضآلتي أحيانا".

في الوسع أن نماثل بين كاتم الصوت، قاتل أحمد، في رواية مؤنس الرزاز، وقاتل لقمان سليم، في أنهما لا يحفلان بأن يذكرهما التاريخ، فالتاريخ سيُعنى بالذي اغتيل لكتم صوته، وليس بالأداة التي كتمتْه. غير أن القاتليْن، في الرواية المتخيلة في بيروت، وفي الواقعة في بلدة العدوسية في جنوب لبنان، لا يتشابهان في غير أمر، فذاك كان في تنظيم، ثم استنكره بعد الحبس، .. "وفُصل، ولجأ لجوءا سياسيا، وعمل كاتم صوت". إنه يحدّث سيلفيا "ما ألذّ الشعور بالقوة والسلطة والنفوذ.. بعد طول اضطهاد". أما قاتل لقمان سليم، فلا نظنّه غادر تنظيما، ثم استنكره. ولا نظنّه يخجل، ويشعر بضآلته. نظنّه مزهوّا بما فعل، وبسلطة ونفوذ وقوة يقيم عليها كلها تنظيمه.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.