مأزق فرط الانتباه
قالت السيدة الحانقة المُكترثة بالشأن العام، مخاطبة نفسها، بعد أن اعتراها اليأس من كلّ شيء: يزدحم رأسي بكمّ هائلٍ من المشاهد اليومية المثيرة للغيظ، التي تتسلّل إلى أحلامي فتحيلها سلسلةً من الكوابيس الثقيلة الضاغطة، وتفسد عليّ ساعات نومي الشحيحة أصلاً. أحاول أن أبتعد عن وسائل الإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعي، والفعاليات الثقافية؛ من ندوات وحفلات توقيع لإصدارات جديدة، ومعارض وأسابيع سينمائية، وحفلات موسيقية ومهرجانات مسرح، غير أنّي أخفق في ذلك تماماً، وأجد نفسي مُتورّطةً في مأزقِ فرطِ الانتباه، وهذا مبعث كآبتي وإرهاقي طوال الوقت، ألا يقال في الدارجة للشخص الغاضب الحردان، في دلالة لعدم الاكتراث بشأنه، "اضرب رأسك بالحيط" أو "روح بلّط البحر". هذا بالضبط ما يخطر ببالي أن أفعله، لا أعرف إذا فعلها أحدٌ قبلي، سيكون جيّداً لو أتعلّم من تجربته. لنفرض جدلاً أنّ كلّ حردان من هذا العالم سيقوم فعلاً بضرب رأسه في أقرب جدار، وقد يتطرّف ويشرع في تبليط أقرب بحر، على الأرجح، أنّ الجدران جميعها سوف تتهاوى، وستتحوّل البحار إلى مساحات مبلّطة عديمة الجدوى، ترى لو جرى ذلك المشهد السريالي المُسيطر على مخيّلتي، هل سيتلاشى الغضب من نفسي المقهورة، المجبورة على معايشة واقع مُلتبس مُمعن في التناقض واللامعقول؟ هل ٍسأكفّ عن المبالغة في الانفعال وأنا أتابع تصريح مُمثّلة عالمية صفيقة ترتدي زيَّ ماري أنطوانيت في مناسبة سخيفة، لتلمز من قناة وضع أهلنا المأساوي في غزّة، الذين التهمهم الجوع، فتقول، متظارفةً، بكلّ وقاحة وقلّة حياء وبلادة وانعدام ذمّة وضمير، جملة "فليأكلوا البسكويت"، لتندلع بعدها أكبر حملة على مستوى العالم لمقاطعة أمثالها من المشاهير (كثيرون منهم عرب أقحاح)، الذين تجاهلوا المقتلة الدائرة في غزّة وواصلوا بث تفاهاتهم، وحقّقت الحملة نجاحاً كبيراً جعلت هؤلاء يخسرون أعداداً هائلة من متابعيهم الذين استجابوا للحملة النبيلة؟ كيف لا أحطّم الشاشة وأنا أشاهد مُمثلّة لبنانية، لها جمهور عريض، تتباهى بكلّ غباء وجهل بتناول وجبة "ماكدونالدز صهيونية"، ثم تتراجع خشية خسارة متابعيها، وتعتذر إلى جمهورها عن تلك السقطة، وتشطب المقطع بعد تعرّضها لموجة من السخط والاستياء؟ كيف أضبط أعصابي وأنا أشاهد نجوماً ونجماتِ الغناء العربي يقيمون الحفلات منذ اليوم الأوّل للعدوان الآثم على المدنيين العزّل، من دون أن يفكّر أحدهم، ولو من باب رفع العتب، في تخصيص ريع هذه الحفلات أو جزء منها لدعم أهل غزّة المنكوبين، في حين يتصدّى نجومٌ ونجماتٌ عالميون من وزن سوزان سارندون وميل غيبسون، وغيرهما كُثر، لفضح جرائم الصهاينة، التي فاقت كلّ تصور، غير عابئين بتهم جاهزة ملفّقة مثل معاداة السامية، ومساندة الإرهاب، اللتين ستؤثّران، حتماً، على فرصهم في الحصول على أدوار جديدة، وذلك انسجاماً مع ضمائرهم الحيّة التي ترفض الضيم وتنحاز من دون تردّدٍ أو حساباتٍ شخصيةٍ إلى الطرف المظلوم؟... نماذج مُشرّفة كهذه، تثلج القلب وتواسي الروح المكسورة، وتزيد مقدار الغيظ من بعض أبناء جلدتنا، ممّن تنكّروا لعروبتهم من أجل مكاسب ضئيلة لن تغنيهم عن جوع مزمن استقرّ في نفوسهم المريضة، رغم تكدّس المجوهرات في خزائنهم والسيارات الفارهة والطائرات الخاصة المصطفّة في مرآبهم، وعن كرامة وعزّة نفس تخلّوا عنها طائعين خانعين متنكّرين جاحدين. ذلك كلّه، وأكثر، من مشاهد مؤسفة، تُحفر في رأسي المُثقلِ على مدار الساعة، وتنغّص عليّ كلّ لحظة تمرّ في هذا العمرِ المُشرع على الغضب والحزن وخيبة الأمل، لأُعلن حردي، وأحاول البحث عن جدار صلب متين غير قابل للتصدّع كي أضرب رأسي به، بكلّ ما أوتيت من قوّة، غير آسفة عليه.