ليكن الانتماء السوري أولَ في وجه الكارثة

11 فبراير 2023

(وسام الجزائري)

+ الخط -

لا يشبه وضع سورية في مأساتها الحالية وضع أي بلد آخر تعرّض للمأساة نفسها، ويعاني، مثل السوريين، من الفقر وفقدان أساسيات الحياة، ذلك أن عشر سنوات من الكوارث اليومية مرت على سورية قبل أن يصيبها الزلزال الطبيعي، قصف يومي وقنابل وصواريخ وبراميل متفجّرة وكيماوي ومعارك وطيران حربي متعدّد الجنسيات، تدمّر وقُتل وشُرّد خلالها ما يعادل ضحايا عشرة زلازل مدمّرة كالزلزال في يوم الاثنين الماضي. وهذا إن لم يكن له دور في قوة الزلزال فله دور في خلخلة أساسات البناء المتبقي سليما في حلب وفي الشمال حيث مركز القصف المستمرّ، وفي اللاذقية وريفها حيث الامتداد واحد على خط آلة الحرب اليومية. ما رفع من عدد الأبنية المدمّرة فوق رؤوس ساكنيها، ورفع بالتالي من عدد الضحايا والمشرّدين.

خصوصية سورية أيضا خلال هذه المأساة في تركيبتها الديموغرافية التي تكرّست خلال السنوات العشر الماضية: مناطق تخضع للنظام ممنوعة على معارضيه، وأخرى تحت سيطرة المعارضة وتابعة لتركيا، ممنوعة على النظام ومؤيديه، وثالثة تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) صاحبة العداء التاريخي مع تركيا ومع النظام السوري معا. وقد ضرب الزلزال الأماكن الثلاثة بالقوة نفسها، جامعا من جعلتهم التحزّبات السياسية أعداء في صداقة الموت.

تتمثل خصوصية سورية أيضا في نظامها الحاكم الذي لا يضاهيه نظام آخر، لا في الفساد ولا في الإجرام ولا في اللامبالاة، حتى بمؤيديه الذين فقدوا أجيالا من أبنائهم في سبيل بقائه حاكما على بلدٍ منهكٍ ومحتلّ ومدمّر وشعبٍ يعاني من فقدان كل مقوّمات الحياة الكريمة، مقابل طبقة صغيرة العدد من تجّار الحرب والمحتكرين الذين يشكّلون مافيا حقيقية، تديرها عائلة بشّار الأسد، ومن دون أي رادع أخلاقي يمنع تلك المافيا من مصّ دم الشعب، بالمعني الحرفي للكلمة، واستنزافه، وتسخير مؤسّسات الدولة لخدمة المافيا الحاكمة، وضمان بقائها متسلّطة ومتسيّدةً على شعبٍ اختزل أحلامه بنصف ساعة متواصلةٍ من الكهرباء أو بتأمين وسيلةٍ من وسائل التدفئة.

في هذا الوضع اللوجيستي في أثناء كارثةٍ كالزلزال، لا يمكن التعويل على أية جهة رسمية للمبادرة في عمليات الإنقاذ وانتشال الضحايا وتأمين المنكوبين في المسكن والمأكل والملبس، فالنظام لا يختلف كثيرا عن المعارضة التي تسيطر على الشمال، الفساد نفسه والذهنية نفسها في التعامل مع الأزمات والعقلية نفسها في العلاقة مع الشعب والسنوات نفسها من الخراب والدمار. وبالتالي، الإمكانات البدائية والبائسة نفسها في عمليات الإنقاذ، مضافا إليه التعنّت نفسه في التعامل مع المجتمع الدولي ومنظمات الإغاثة ومحاولات الاستفادة من ذلك لصالح كل فريق، بينما يمرّ الوقت ويزداد عدد الضحايا تحت الأنقاض، وعدد المشرّدين الذين فقدوا بيوتهم، ما يعني كارثةً مجتمعيةً جديدةً أخرى في انتظار هذا الشعب المنكوب.

في هذا الوضع المعقّد والمركّب، لا يمكن التعويل سوى على المبادرات الفردية، بالتعاون مع جهات محلية موثوقة، وهي موجودةٌ وتعمل في الأراضي السورية منذ نهاية 2011، رغم كل محاولات النظام وحلفائه لتشويهها، سواء في المناطق الخارجة عن سيطرته أو التي تحتها، ثمّة حراكٌ أهلي موثوق وفاعل (يخيف النظام ويعمل على منعه)، يجب دعمه بعيدا عن التخوينات المعتادة، ويجب التكاتف كسوريين بعيدا عن أي انتماءٍ أو اصطفاف آخر حاليا؛ ويجب اجتراح المبادرات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ووضع أي خلافٍ جانبا، فالسوريون في كل المناطق المنكوبة يحتاجون أن نكون معهم، خصوصا منا نحن من نعيش في الخارج، ونعاني من متلازمة الناجين، ونحن نظنّ أننا عاجزون، بينما الواقع يقول العكس، إذ أظهرت الأيام القليلة الماضية المعدن الحقيقي للسوريين، حين وضعتنا الكارثة جميعا أمام حقيقية وحيدة: الجغرافية والتاريخ والطبيعة تجعلنا أصحاب مصير واحد، مهما اختلفت سبلنا وانتماءاتنا. وهو يحتّم علينا إعادة صياغة آليات تفكيرنا بما يجعلنا نحاول استعادة تلك الرابطة، مهما كانت واهية وغير مرئية حاليا أو مغلّفة بأطنان من الغضب والكراهية المتبادلة.

لطالما كانت الكوارث الطبيعية فرصة لإعادة النظر في أحوال البشر، فما بالكم حينما تأتي بعد سنوات طويلة من حربٍ مدمّرة للروح الإنسانية قبل الأرض؟ لست رومانسية لأتخيّل أن ما حدث سوف يمحو سنوات القتل والإذلال والمقابر الجماعية المفتوحة والحقد المشترك. على الأقل، لنجعل انتماءنا السوري اليوم وجهتنا للتخفيف من أثر الكارثة، ثم لكل حادثٍ حديث.

 

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.