ليس حنيناً إلى الإذاعة

15 فبراير 2022

(Getty)

+ الخط -

رحم الله طه حسين، أقلقَه، في أربعينيات القرن الماضي، انصراف بعض الفتية والناشئة عن القراءة إلى اللهو بالاستماع إلى الراديو، ورأى في الأمر قضيةً يجب الالتفات إلى خطورتها. .. من شأن استدعاء "مخاوف" العميد الرائي هذه، في زمن الرقميات والشبكيات والشاشات المهولة الذي نعيش، أن يبعث في مخيّلاتنا زوابع من أسئلةٍ ومفارقاتٍ بشأن المساحات الشاسعة التي اجتازتها البشرية منذ ذلك الزمن الذي كانت فيه الإذاعة اختراعا جديدا جاذبا، ومؤثّرا. وفي أرشيف عربيٍّ بعيد، نصادف أن إيطاليا الفاشية وجّهت إذاعةً إلى العالم العربي في 1934، وأن هذا كان من دواعي إطلاق بريطانيا إذاعة بي بي سي العربية (إلى الشرق الأدنى) في 1938. وفي أرشيفٍ أقرب، كانت الإذاعة وسيلة الحروب الدعائية والتحريضية، الشتائمية (إن صحّت النسبة إلى الجمع) بين أنظمةٍ عربيةٍ معلومة، ليس فقط إبّان نهش إعلام جمال عبد الناصر في الملك حسين والحكم في العربية السعودية وفي الحبيب بورقيبة و.. إلخ، وإنما أيضا إبّان أكل البعثيْن، السوري والعراقي، لحوم بعضِهما، في إذاعتي دمشق وبغداد. ومن أسفٍ، أن يذهب واحدُنا إلى استذكار مثل تلك المباذل، بمناسبة يوم الإذاعة العالمي، أول من أمس، 13 فبراير/ شباط (تقرّر في عام 2011) فيما الأدعى والأجمل أن يُؤتى من أراشيف الإذاعة عربيا اجتماع الأمة على سماع أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وصباح فخري وناظم الغزالي و... من الراديو، قبل نفوذ التلفزيون الذي تأخّر حضوره في حواضر وأريافٍ ومدنٍ وقرى عربية عديدة.
كأن "اليونسكو" تشجّعنا على تنحية تلك الحروب الإعلامية، الدعائية البائسة، التي ما زالت أنظمةٌ وحكوماتٌ باقيةً عليها وبكيفياتٍ ركيكة، وكانت الإذاعة من بواكير أدواتها، كأنها تُؤثر أن نقدّم على هذا الأمر، الاستخدامي الذي لم تنفرد به الإذاعة، بل مضت فيه وسائل الإعلام المعلومة كلها، أدوارا محمودةً في وسع الإذاعة أن تساعد في تعزيزها، فأشهرت الثقةَ محورا لموضوعاتٍ ثلاثةٍ اختارتها للاحتفال بمناسبة اليوم العالمي للإذاعة لهذا العام، وحدّدت أهدافا أربعةً لهذا الاحتفال: تعزيز الاتصال والتواصل بين المجتمعات، تشجيع إشراك أصواتٍ مختلفةٍ ومتعدّدة في النقاش العام، توسيع نطاق الانتفاع بالمعلومات والمعارف، ترسيخ التفاهم المتبادل من خلال تعزيز التدفق الحر للأفكار. .. والظاهر أن هذا طموحٌ كبيرٌ لدى القائمين على "اليونسكو" التي باتت تُسرف، منذ أعوام، في تعيين أيامٍ عالميةٍ لغير شأن وشأن (يوم للشعر، مثلا). ذلك أن الإذاعة لم تعد لها المكانة الخاصة التي تتصدّر بها وسائل الإعلام التي يتوجّه إليها الجمهور العام، ولم يعد لها ذلك التأثير الذي كان لها إبّان طه حسين وجمال عبد الناصر على الرأي العام. هذا معلومٌ وبديهي، ولا يغيب عن بال أهل "اليونسكو"، وإنْ يقول مسؤول برامج الاتصال والمعلومات فيها، جورج عواد، إن الإذاعة لا تزال حاضرةً بنسبةٍ جيدةٍ على أرض الواقع في العالم، وإن "سكان مناطق الريف لعلهم الأكثر تمسّكا بها وسيلةً إعلاميةً سريعة وموضوعية معا"، لكن هذا، إن كان حقيقيا، لا يؤدّي، على الأرجح، إلى إنفاذ تلك الأهداف المعلنة، والتي في مقدور وسائل تواصل واتصال أخرى أن تنجزها بكفاءة، إن أريدَ لها أن تفعل. ويحتاج "نقاشا"، أو أخذا وردّا، قول المسؤول الرفيع في الهيئة الأممية إن "الخطر" الذي يهدّد الإذاعة هو نفسه الذي يهدّد وسائل إعلاميةً أخرى، مكتوبة ومرئية، مع التسليم بصحة إشارته إلى أن "الإذاعة التحقت أيضا بالفضاء الرقمي، وصار في إمكان متابعي هذه الوسيلة التقاط موجاتها عبر الإنترنت والتطبيقات الإلكترونية الخاصة بها".
لا ينتسب صاحب هذه المقالة إلى الجيل الذي كان يتحلّق ناسٌ منه حول الراديو في مقهى من أجل الإنصات إلى عبد الناصر أو أحمد سعيد في "صوت العرب"، وإنما هو ممن كانوا ينتظرون نشرات أخبار إذاعة مونت كارلو لسماع أخبار الغزو الإسرائيلي بيروت ومواجهته في صيف 1982، قبل أن يشاهد ما يتوفر من صور في نشرات أخبار الساعة الثامنة مساءً على القناة الثالثة في التلفزيون الأردني. ومرجّحٌ أن المخضرمين، والسابقين علينا، يغشاهم بعض النوستالجيا تجاه زمن الإذاعة الذهبي، وهذا مريحٌ للنفس على سبيل السلوى واستدعاء الجميل من أزمنةٍ مضت.
.. يا لها من صباحاتٍ دافئة، تلك التي كانت في منزلنا، وفيها صوت مازن القبّج في إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية من عمّان، يحاور المهندس الزراعي فلان الفلاني عن زراعة البرتقال. يا له من قلق ذلك الذي انتاب طه حسين .. هذا ليس حنينا. ما هو؟ لا أدري.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.