ليست انتخابات مسرحية

22 أكتوبر 2015
+ الخط -
أخطأت صحيفة لوموند الفرنسية في وصفها الانتخابات البرلمانية المصرية التي جرت مرحلتها الأولى الأسبوع الجاري بأنها مسرحيّة، وهذا وصفٌ يردده مصريون ومعلقون عرب كثيرون، بل يزيدون عليه، أحياناً، نعت هذه الانتخابات بأنها هزلية. ليس مبعث الخطأ أن مرحلة ثانية للاقتراع ستنتظم الشهر المقبل، سيتقاطر فيها 28 مليون مصري مسجلون في قوائم المصوّتين على مراكز الانتخاب، في طوابير بلا عدد، ليؤكدوا أن ازورار غالبيةٍ عظيمةٍ من 27 مليون ناخب مصري عن التصويت، الأحد والاثنين الماضيين، ليس نهاية المشهد. لن يحدث هذا، بل سيستكمل المصريون ضربتهم الثقيلة للقوة الحاكمة وسلطتها وأذرعها، في عمليةٍ نوعيةٍ وبالغة الجوهرية، لا شطط في قول عارفين إنها رسالةُ إنذارٍ إلى عبد الفتاح السيسي، يجوز حسبانها مسماراً في نعش نظامه. ولأن الأمر هكذا، ولأن الذي صنعته السلطة النافذة، وهذه هجين من العسكر والفلول والفاسدين، من أجل تزبيط البرلمان كان جدياً، ومدروساً ومحسوباً بكل عناية، لا يصير في محله أن يوصف هذا كله مسرحيّةً وفعلاً هزلياً.
وإلى ذلك، المسرح أبو الفنون، وصنعة إبداعيةٌ لا يعرفها إلا الموهوبون في الخلق الفني والابتكار، لإشاعة قيم الإنسان الخالدة، الحق والجمال والحرية. ومؤكد أن عملية الثأر الواضحة المعالم من ثورة الشباب المصري في "25 يناير"، وهي عمليةٌ يجهد فريق عبد الفتاح السيسي في ترسيمها، تخلو من هذا السمْت الذي يتوفر عليه فن المسرح. وإذا كانت "لوموند" قد سوّغت نعتها المذكور أعلاه بأن (الانتخابات؟) معلومة النتائج مسبقاً، فذلك لا يكفي، لأن للمسرح، باعتباره فناً رفيعاً، استحقاقاته الأخرى، منذ أرسطو وحتى جمال أبو حمدان، لا يعرف شيئاً منها نجلا عبد الفتاح السيسي وكمال الشاذلي، وكذلك إلهام شاهين التي خاطبت "شعب مصر العظيم" تدعوه إلى تلبية نداء الوطن. أما الحديث عن الهزل، فإنه أيضاً يسيء إلى فنٍّ بالغ الصعوبة، وبرع فيه قليلون جداً، عرباً وأجانب، وله أعلامه وصناعه. ونظن أن الراحلين الكبار عبد المنعم إبراهيم وياسين بقوش وعبد السلام النابلسي (أمثلة)، كانوا خلاقين ومبهجين في هزلياتهم، ليس من الأخلاق مماثلتهم مع من يشيعون التفاهة في أردأ مخرجاتها ومدخلاتها، عندما أراد هؤلاء من المصريين أن يُصادقوا على آخر مراحل "خريطة الطريق" إيّاها، لا لشيء إلا لأن الرئيس الضرورة يريد ذلك، ولأن من تبقّوا من زمّاريه أعدّوا كل شيء وجهّزوه، من قانون انتخابٍ، وتصنيع قائمة الفائزين بالأغلبية المطلوبة، وترميم ناس حسني مبارك وجمال مبارك، من سرّاق وضباط متقاعدين محظيين وحيتان معلومين.
ذهب المصريون، منذ "25 يناير"، إلى ثلاثة انتخابات وثلاثة استفتاءات وانتخبوا رئيسيْن، أضيف من أجل الاقتراع لثانيهما يوم انتخابي ثالث، وهو لم يكن مرشحاً تقليدياً، بل صاحبَ رؤية، فلم يطرح برنامجاً، وبعد عامٍ على خطفه الولاية والإقامة في قصر الرئاسة، زادت فيه الأسعار ولم تنقص البطالة ولم يقلّ الفقر، وتم فيه الاكتفاء بمحاربة الإرهاب وتنفيذ مشروع سابقٍ في قناة السويس، سمع المصريون أن الرجل مصدومٌ من كثرة المشكلات في البلد وهولها. وكان الظن أنه أعلمُ بها من غيره، وهو الذي اشتغل مسؤول استخبارات، كما أنه حُمل مُنقذاً مصر من الضياع. وهذا مشهده، وهو يخاطب المصريين، رجالاً ونساءً كما قال، يدعوهم إلى انتخاب ممثليهم في البرلمان، يبعث على الدهشة، فقد بدا كأنه يحاول تظهير ثقةٍ لديه، بالتعمية على حالة كساح سياسي يقيم فيها، أكدت هذه الحالة لاحقاً رسالةُ المصريين إليه، وقد مُنح الموظفون الحكوميون منهم يوم عطلة، عندما أبلغوه فيها بأن في وسعه أن يقومَ بما يشاء، وأن ينتج القوانين التي يُريد، وأن يصنع البرلمان الذي يودّه، من دون حاجةٍ إلى استخدامهم في هذا كله وغيره. .. أرادتها السلطة انتخاباتٍ، لكن الشعب جعلها استفتاءً صامتاً على نظام يستهلك أوهامه عن نفسه، ويقضمها مستعجلاً وبسرعة.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.