ليث شبيلات ... مات بالسكتة "الوطنية"

25 ديسمبر 2022
+ الخط -

ومن الوطن ما قتل، ولا سيما إذا كان الوطن حبّاً كحبّ ليث شبيلات الأردن، غير أن الوطن وحده لم يقتل ليث، فثمّة مشاركون كثر أسهموا بالسكتة القلبية التي وضعت خاتمة لحياة هذا الرجل الذي لم ينصفه النظام والشعب على السواء.
وقبل السكتة القلبية، كانت ثمّة مؤشرات للموت لم تظهرها أجهزة الرصد الطبي، أبرزها "السكتة الوطنية"، تلك التي كانت السبب الحقيقي لرحيله، عندما تبخّر حلمه برؤية الوطن الحرّ الديمقراطي الذي حلم به طويلاً، منذ كان مهندساً شابّاً مفعماً بالحماسة للتغيير، فدخل من باب العمل النقابي إلى السياسي، ليكون على تماسّ مباشر مع الشارع. على الرغم من أنه كان مؤهلاً، بحكم طبقته التي يتحدّر منها، لأن يكون جزءاً من "علية القوم"، ومن "غير المغضوب عليهم". وكان في مقدوره، أيضاً، أن يكون مسؤولاً كبيراً أو وزيراً أو ما شاء له أن يختار، غير أنه اختار أن ينحاز للبسطاء والفقراء والمستضعفين، وأن يدافع عن كرامة الناس وحرّياتهم، ويقاوم الظلم والفساد اللذين رآهما معشّشين في مفاصل الدولة، وقد اكتسب في العمل النقابي شهرة واسعة بفضل نشاطه الدائب، وتفاعله مع الأحداث المحلية والقومية، وصوته الجريء. وكان يقف دوماً على رأس التظاهرات والحراكات المهنية، فبدأ يُحسَب على المعارضة، وإن لم تبلغ معارضته حدّ المناداة بإسقاط النظام، وهو القاسم المشترك لمعظم الحركات الوطنية الأردنية. 
ولأنه كان كذلك، اختار لاحقاً العمل البرلماني، عندما استؤنفت الحياة النيابية عام 1989، لأنه يعشق الانتخابات وصناديق الاقتراع، ويرى فيهما حلماً مصغّراً لما ينبغي أن تكون عليه الحياة السياسية التي يؤمن بها، وكان يحصُد دائماً أعلى الأصوات وبفوارق فلكية بينه وبين أقرب منافسيه، بحكم ثقة الناس به، وبمواقفه، وبطروحاته الجريئة، فلم يكن يساوم أو يتنازل. ولم يكن يعترف بالمناطق الوسطى، والمساحات الرمادية، وصوته كان الأعلى والأقوى على منبر البرلمان. ومن المفارقات التي تُحسب له أن الأحزاب السياسية الأردنية كانت تستميت للتحالف معه قبل أيّ انتخابات نيابية تجرى؛ لأنها تعرف مقدار ثقله الانتخابي في صناديق الاقتراع، وربما كانت السابقة الأولى التي تتحالف فيها أحزابٌ مع فرد واحد.
المفارقة التي لم يحسِب لها أبو فرحان حساباً، أن يكون أول ضحايا أحد القوانين التي تحمّس لها وساهم بإقرارها في مجلس النواب، فما إن انتهت الدورة الانتخابية، ورفعت الحصانة عنه، حتى باغته "زوّار الفجر"، ليجد نفسه معتقلاً، ثم محكوماً بالسجن، على خلفية القانون ذاته الذي تحمّس له، فثمة من كان يترصّده في أجهزة الحكم للإيقاع به.
وقد مثّلت فترة سجنه علامة فارقة في مسيرته السياسية، عندما وجد نفسه وحيداً في معركته التي حارب فيها من أجل الشعب. ومع خذلانه المرير من القوى الوطنية التي لم تؤازره في محنته، ومن الشعب الذي أراده بطلاً إغريقيّاً يحارب وحده، ويُسجن وحده، أصيب بانتكاسةٍ جعلته يعتزل العمل السياسي المباشر، في مجلس النواب وسواه، واختار اللجوء الطوعي إلى تركيا، ولسان حاله يقول: "أريد الهرب من النظام والشعب معاً"، وراح ينتقد الطرفين معاً في فيديوهاته على وسائل التواصل الاجتماعي، محمّلاً الشعب أيضاً قسطاً من مسؤولية التدهور الذي حلّ بالبلاد، بسكوته عن الظلم، وتكيّفه مع سياسة الأمر الواقع التي فرضها النظام. 
ومنذ ذلك التاريخ، بدأت أعراض "السكتة الوطنية" تظهر على ملامح ليث شبيلات، الذي يكره الصمت والسكوت عن التجاوزات، والفساد، ثم راحت تزداد حدّة مع "الفضائح" التي تظهر تباعاً، ومع الأحداث الجسيمة التي يعيشها وطنه، وجديدها أخيراً إضرابات أصحاب وسائط النقل واحتجاجاتهم التي اندلعت قبل أسابيع، وبدأت بالشاحنات، ثم تطوّرت إلى الحافلات والتكاسي، مع كلّ ما رافقها من صدامات واعتقالات، فبلغت "السكتة" ذروتها هذه المرّة، وفجّرت قلبه الذي أحبّ الأردن حتى الموت.
ويبقى أن أبا فرحان صاحب الفرح المؤجّل دائماً اختار لابنه هذا المسمّى، لأنه لم يفقد أبداً يقينه بالأجيال.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.