ليبيا: خلفيات اشتباكات العاصمة وتداعياتها
شهدت العاصمة الليبية طرابلس ومحيطها، في 27 آب/ أغسطس 2022، اشتباكات عنيفة، استُخدمَت فيها مختلف صنوف الأسلحة، بين قوات موالية لحكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة وأخرى موالية للحكومة المُكلَّفة من مجلس النواب في طبرق برئاسة فتحي باشاغا؛ ما أسفر عن سقوط عشرات القتلى والجرحى وإلحاق أضرار بالأملاك الخاصة والعامة والبنى التحتية. وتعيد الاشتباكات الأخيرة، وهي المحاولة الثالثة التي تقوم بها قوات موالية لحكومة باشاغا لدخول العاصمة، طرح تساؤلات حول آفاق المشهدَين السياسي والأمني في ليبيا، وسُبل الخروج من الأزمة المستمرة منذ عام 2014.
حكومة باشاغا: إصرار على دخول العاصمة
منح مجلس النواب الليبي الثقة لحكومة فتحي باشاغا في الأول من آذار/ مارس 2022، بعد أيام من سحب الثقة من حكومة الوحدة الوطنية التي يرأسها عبد الحميد الدبيبة، الذي قابل خطوة مجلس النواب بالرفض، واعتبرها إجراءً أحاديًا فاقدًا للشرعية ومخالفًا لمخرجات ملتقى الحوار السياسي الليبي في جنيف، وتعهّد بعدم تسليم السلطة إلا لحكومة منبثقة من انتخابات.
تسبب تشكيل حكومة باشاغا بمزيد من الانقسامات في المشهدَين السياسي والأمني الليبي؛ إذ نتج منها تصدّع الجبهة المحسوبة على المنطقة الغربية التي تصدت لهجوم قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر على العاصمة طرابلس خلال عامي 2019 و2022، ووصل الانقسام إلى داخل مدينة مصراتة التي ينحدر منها باشاغا والدبيبة، وتُمثّل مركز الثقل العسكري والاقتصادي في المنطقة الغربية.
في 10 آذار/ مارس 2022، وبعد أيام قليلة من منح باشاغا ثقة مجلس النواب، وجّه رتلًا عسكريًّا من مصراتة إلى العاصمة طرابلس، عبر الطريق الساحلي الشرقي، بهدف السيطرة على المقار الحكومية، غير أن قوة تابعة للدبيبة أجبرته على التراجع من منطقة القره بوللي، دون وقوع صدامات بين الطرفين.
إثر فشل المحاولة الثانية لدخول العاصمة، استقرت حكومة باشاغا في مدينة سرت، غير أن ذلك كان خيارًا مؤقتًا
وفي 17 أيار/ مايو 2022، حاول باشاغا، ثانية، رفقة أعضاء من حكومته، الدخول إلى العاصمة، عن طريق مطار معيتيقة، بيدَ أن هذه المحاولة باءت بالفشل، هي الأخرى، رغم انحياز "القوة الثامنة" المعروفة بـ "كتيبة النواصي" إليه. وعلى خلاف المحاولة الأولى، تخللت المحاولة الثانية اشتباكات مع القوات التابعة لحكومة الدبيبة، انتهت بمغادرة باشاغا إلى منطقة الشويرف ومنها إلى مدينة سرت، وسط أنباء عن تدخل القوات الخاصة التركية لتأمين انسحابه بعد محاصرته في منطقة طريق السكة بالعاصمة طرابلس.
إثر فشل المحاولة الثانية لدخول العاصمة، استقرت حكومة باشاغا بمدينة سرت، غير أن ذلك كان خيارًا مؤقتًا؛ إذ لم يثنِ فشل المحاولتين الأولى والثانية باشاغا عن مسعاه إلى دخول العاصمة والتمركز فيها.
السبت الدامي: تضارب الحسابات
وجّه باشاغا يوم 24 آب/ أغسطس 2022، خطابًا تضمّن ما يشبه الإنذار إلى عبد الحميد الدبيبة، مطالبًا إياه بمغادرة السلطة فورًا وتسليم مهمّاته. وحذّر باشاغا، في الخطاب المذكور، غريمه الدبيبة من مغبّة الرفض، وحمّله مسؤولية ما قد ينتج من ذلك من سفكٍ للدماء. وبدا واضحًا، من خلال الخطاب، أن الصدام العسكري بين الطرفين بات وشيكًا. وترافقت تحذيرات باشاغا للدبيبة بحشد مجموعات عسكرية موالية للأول في مصراتة وفي التخوم الجنوبية الغربية للعاصمة طرابلس؛ خاصة في منطقة ورشفانة.
بناء عليه، سرت توقّعات بأن يكون هجوم قوات باشاغا على العاصمة طرابلس عبر محورين رئيسَين: الأول من الشرق تنفِّذه قوات قادمة من مصراتة عبر الطريق الساحلي، والثاني من الجنوب الغربي تقوم به القوات التي يقودها اللواء أسامة الجويلي؛ وجلّ أفرادها من الزنتان، تساندها مجموعات مسلحة متمركزة داخل العاصمة، خاصة "الكتيبة 92 مشاة" بقيادة هيثم التاجوري و"كتيبة النواصي" التي سبق لها الانحياز إلى باشاغا، كما ظل احتمال تغيير مجموعات أخرى ولاءها من حكومة الدبيبة إلى حكومة باشاغا واردًا.
يوم دامٍ خلَّف 32 قتيلًا وأكثر من 100 جريح وخسائر في البنى التحتية والممتلكات العامة والخاصة
ونظرًا إلى طول المسافة من جهة الشرق وبطء حركة الأرتال العسكرية في محاور مكشوفة وآهلة بالسكان؛ افتقرت خطة الهجوم المفترضة على العاصمة بقوات قادمة من مصراتة وأخرى من منطقة ورشفانة إلى عنصر المباغتة؛ ما منح قوات حكومة الدبيبة الفرصة للاستنفار وتنظيم صفوفها والدفع بمزيد من التعزيزات. وكانت التوقعات أن تكون الاشتباكات مقدمة لحرب طويلة وعمليات كرٍّ وفرٍّ مشابهة لما جرى خلال هجوم قوات حفتر على العاصمة والمنطقة الغربية في نيسان/ أبريل 2019، غير أن ما جرى كان مخالفًا لهذه التوقعات.
بادرت "قوة دعم الاستقرار" الموالية لحكومة الدبيبة، في ساعة مبكرة من يوم 27 آب/ أغسطس 2022، بشن هجوم استباقي على مقرات "الكتيبة 92 مشاة"؛ الموالية لحكومة باشاغا، وسط العاصمة طرابلس، وسيطرت عليها، بعد ساعات من القتال العنيف. وفي الآن نفسه، هاجمت قوات من "اللواء 444" مقارّ "كتيبة النواصي"، وسيطرت عليها. أما في جنوب غرب العاصمة فقد اشتبكت قوات تابعة لحكومة الدبيبة مع قوات اللواء أسامة الجويلي بالأسلحة المتوسطة والثقيلة، وتمكنت من السيطرة على مقرها الرئيس في منطقة السواني وسط أنباء عن تدخل الطيران المسيّر وتنفيذه ضربات جوية استهدفت آليات تابعة للجويلي. وفي الطريق الساحلي غرب العاصمة، تصدَّت قوات من مدينة الزاوية لمسلحين تابعين لباشاغا، ومنعتهم من التمركز في المنطقة المعروفة بـ "بوابة 27".
بعد يوم دامٍ خلَّف 32 قتيلًا وأكثر من 100 جريح وخسائر في البنى التحتية والممتلكات العامة والخاصة، عاد الهدوء إلى العاصمة، دون تغيير كبير في طبيعة الأزمة المزمنة.
بخسارة باشاغا، وإنهاء الجيوب الموالية له في طرابلس ومحيطها، باتت حظوظه في دخول العاصمة واستلام السلطة بالقوة أضعف من أي وقت مضى
حسم محدود وانقسام مستمر
تمكَّنت القوات الموالية لحكومة الدبيبة من حسم العملية العسكرية الأخيرة في العاصمة لصالحها. وساهم التحرك المباغت ضد التشكيلات الموالية لباشاغا داخل طرابلس في إرباك الخطة المفترضة لانتزاع العاصمة، والتي تتمثل في انطلاق العمليات العسكرية من الشرق والجنوب الغربي من خلال هجوم تنفّذه التشكيلات الموالية لباشاغا القادمة من مصراتة وورشفانة؛ إذ أدى سقوط مقرات "الكتيبة 92 مشاة" ، ومقرات "كتيبة النواصي"، ثم استهداف تمركزات قوات الجويلي جنوب العاصمة، إلى تحرك سريع وغير منظم لمجموعات مسلحة من مصراتة لتعزيز الكتائب الموالية لباشاغا في العاصمة؛ ما سهَّل قطع طريقها قرب مدينة زليتن وإجبارها على التراجع إلى مصراتة، فيما سارعت قوات من الزاوية وجنزور - غرب العاصمة، لمنع تمركز مسلحين تابعين لباشاغا في الطريق الساحلي، وأجبرتهم على الجلاء عن المنطقة المعروفة بـ "بوابة 27".
بإنهاء الجيوب الموالية لباشاغا داخل العاصمة والحيلولة دون قدوم تعزيزات من خارجها، حققت القوات الموالية لحكومة الدبيبة انتصارًا سريعًا في الجولة الأخيرة من القتال، وباتت قبضتها على العاصمة أكثر إحكامًا من ذي قبل، وعززت هذه السيطرة بضمان ولاء أكثر التشكيلات العسكرية والأمنية في العاصمة تدريبًا وقوة، مثل "اللواء 444"، كما استفادت من فشل باشاغا في استقطاب أكبر المكونات العسكرية في مصراتة والزاوية، التي حافظ جلها على تبعيته لحكومة الوحدة الوطنية، فيما وقف بعضها الآخر على الحياد.
وبخسارة باشاغا، وإنهاء الجيوب الموالية له في طرابلس ومحيطها، باتت حظوظه في دخول العاصمة واستلام السلطة بالقوة أضعف من أي وقت مضى، غير أن خسارته الميدانية في تلك الجولة قد لا تمنعه من القيام بمحاولات أخرى مستقبلًا، في حال حدوث تحولات جديدة في التحالفات؛ إذ سبق له القيام بمحاولتين فاشلتين للدخول إلى العاصمة، كما أن انخراطه، حاليًّا، في معسكر حفتر وداعميه الإقليميين يجعل إقراره بالخسارة والتسليم لحكومة غريمه الدبيبة فرضية مستبعدة.
أثبتت محطات النزاع العسكري التي شهدتها ليبيا في السنوات الأخيرة أن جميع الأطراف المتنازعة عاجزة عن تحقيق حسم عسكري كامل
في مقابل ذلك، يظل الإنجاز الذي حققته القوات الموالية للدبيبة انتصارًا محدودًا لا يرقى إلى حسم عسكري ميداني كامل من شأنه إحداث تغييرات جذرية في المشهد الليبي؛ إذ ما زالت المنطقتان الشرقية والجنوبية وأجزاء من المنطقة الوسطى خارج سيطرتها، كما أن حكومة باشاغا لا تمتلك أي ثقل عسكري خارج المنطقة الغربية؛ ما يؤكد أن هذا الانتصار كان محدودًا في الزمان والمكان لا يشمل بقية الجغرافيا الليبية الواقعة تحت سيطرة معسكر حفتر، كما هو الحال في المنطقة الشرقية، أو الخارجة عن أي سلطة، كما في أجزاء واسعة من المنطقة الجنوبية.
أثبتت محطات النزاع العسكري التي شهدتها ليبيا في السنوات الأخيرة، أن جميع الأطراف المتنازعة عاجزة عن تحقيق حسم عسكري كامل، وأن العمليات العسكرية الكبيرة أعقبتها جولات من الحوار السياسي انبثقت منها توافقات وأجسام سياسية جديدة وخرائط طرق للوصول إلى انتخابات تؤدي إلى مؤسسات حكم شرعية. غير أن جميع التوافقات السابقة لم تدم طويلًا، ولم تؤدِّ إلى توحيد المؤسسات وتحقيق الاستقرار. ففي عام 2015، وإثر النزاع المسلح بين معسكرَي "الكرامة" و"فجر ليبيا"، وُقِّع الاتفاق السياسي الليبي في الصخيرات وأُنشئ، بمقتضاه، المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني لتوحيد السلطة التنفيذية وتهيئة السياق السياسي والأمني لإجراء الانتخابات، غير أن فشل هذا المسار وهجوم قوات حفتر على طرابلس، ثم انكسارها بعد أكثر من عام من القتال، أدى إلى تنظيم ملتقى الحوار السياسي الليبي في تونس، ثم في جنيف، حيث أسفر عن تشكيل سلطة تنفيذية جديدة وخريطة طريق لتنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية، وكان مآله، هو الآخر، الفشل.
لا يبدو، حاليًّا، أن الفرقاء مقبلون على حوار جديد على غرار حواري الصخيرات وجنيف، كما لا يبدو حديث الدبيبة عن الانتخابات بوصفها الحل الوحيد للخروج من المأزق الحالي حديثًا يستند إلى معطيات موضوعية في سياقٍ يفتقر إلى أدنى الشروط الأمنية والسياسية والمؤسساتية لتنظيم الاستحقاق الانتخابي، وفي ظل عجز المجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب عن التوافق على قاعدة دستورية للانتخابات رغم جولات الحوار المتكررة في القاهرة والرباط، وفي ظل التدخل الإقليمي المستمر.
لا بديل من التزام الأطراف بنتائج أي حوار وطني أو اتفاق قبل أي انتخابات، ولا بديل من قاعدة دستورية متَّفق عليها لإجراء الانتخابات لاحقًا
تشير المعطيات السياسية والعسكرية – الميدانية إلى أن واقع الانقسام الحالي سيتواصل على المدى المنظور، رغم أن مآلات الجولة الأخيرة من القتال سوف تعزز بالتأكيد سيطرة حكومة الوحدة الوطنية على العاصمة والمنطقة الغربية وتبعد عنها شبح الصدام العسكري، حيث إن حكومة باشاغا لم تعد تملك، عمليًّا، أوراقًا عسكرية وسياسية مهمة، خاصة بعد فشلها في استقطاب أكبر المكونات العسكرية في مصراتة وانسحاب جل المقاتلين التابعين لأسامة الجويلي إلى الزنتان.
ويسهم المعطى الإقليمي في تعقيد المشهد وإدامة الانقسام حتى في حال انكفاء حكومة باشاغا؛ إذ من الوارد أن تدفع بعض القوى الإقليمية المهتمة بالشأن الليبي إلى خيار "الحكومة الثالثة" بديلًا من حكومتَي الدبيبة وباشاغا؛ وهو خيار لا يضمن توحيد المؤسسات التنفيذية، بل يؤدي إلى انقسام جديد، فلا بديل من التزام الأطراف بنتائج أي حوار وطني أو اتفاق قبل أي انتخابات، ولا بديل من قاعدة دستورية متَّفق عليها لإجراء الانتخابات لاحقًا. فبالثقافة الحالية السائدة لدى النخب الليبية لا ضمان لإجراء الانتخابات أو الالتزام بنتائجها إذا جرت.
خاتمة
مثَّلت الاشتباكات التي شهدتها العاصمة الليبية طرابلس، في 27 آب/ أغسطس 2022، الفصل الأكثر عنفًا من الصراع بين حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة والحكومة المكلَّفة من مجلس النواب برئاسة فتحي باشاغا. وساهمت المبادرة بالهجوم من طرف قوات الدبيبة ضد الجيوب الموالية لباشاغا داخل العاصمة في تحقيق تقدم سريع وإرباك التعزيزات القادمة من مصراتة ومناطق جنوب غرب العاصمة وإجبارها على التراجع، غير أن هذا الانتصار لا يغير كثيرًا في المشهدَين العسكري والسياسي في ليبيا، وإن ساهم في إضعاف حكومة باشاغا ومعسكر حفتر وداعميه الإقليميين. وفي الوقت نفسه، تبدو حظوظ إطلاق حوار للوصول إلى توافق جديد بين المتنازعين ضعيفة، فيما لا تتوفر الشروط الدنيا؛ الأمنية والسياسية والدستورية، لترجمة الدعوات لإجراء انتخابات قريبة؛ ما يعني استمرار الانقسام السياسي والمؤسساتي، على المدى المنظور، حتى لو كان بصيغ أخرى.