لو كان أينشتاين حياً
رغم الاهتمام الواسع الذي أثارته أحداث الجمعية العمومية غير العادية التي انعقدت في نقابة المهندسين المصريين الثلاثاء الماضي، إلا أن جُل التحليلات والتعليقات ذهبت إلى دلالات ما حدث من منظور المهندسين أعضاء النقابة وموقفهم. وركّزت غالبية التعليقات في وسائل التواصل على الاحتفاء برفض المهندسين سحب الثقة من النقيب الحالي، والوقوف أمام محاولة إخضاع النقابة لسيطرة حفنةٍ من أعضاء مجلس النقابة يتبعون أجهزة السلطة، ويخشون من مواقف النقيب التي باتت تهدّد مصالحهم الخاصة. تناولت بعض التحليلات ما انطوى عليه من إشاراتٍ قوية إلى تبلور مواقف نقابية متماسكة وقابلة لمزيدٍ من التطوير. وكيف أن إحياء الحياة النقابية في مصر، ليس فقط يجري على عكس رغبة السلطة وضد سياستها في التطويع والإخضاع بشكلٍ مباشر، لكنه أيضاً يعبّر عن تصاعد الاستياء لدى مكوّنات أساسية في طبقة التكنوقراط المصرية، وخاصة المهندسين والمحامين والأطباء والصحافيين. وليس خارج تلك الدائرة سوى المعلمين والتجاريين، بسبب الارتباط الوظيفي لأعضاء النقابتين بالمؤسّسات الحكومية والرسمية، بما لها من سطوة وقدرة غاشمة على التنكيل عملياً وقانونياً بالأغلبية الكاسحة من أعضاء النقابتين.
لم يلتفت أحدٌ إلى الجانب الآخر من أحداث نقابة المهندسين. وهو جانب السُلطة وأتباعها الذين حاولوا قطع الطريق على قرار الجمعية العمومية برفض سحب الثقة من النقيب "غير المرضيّ عنه" من السلطة وأجهزتها ومنتفعيها. رغم أن ما جرى يدعو إلى البحث مجدّداً عن أسس تفكير السلطة والمنطق الذي تعمل به أجهزتها. والتساؤل عن كيف تفكّر في الحاضر وكيف تحلّل التاريخ وهل تستفيد من دروس الماضي.
ما جرى الثلاثاء الماضي، 30 مايو/ أيار، يتشابه كثيراً مع ما جرى يوم الأربعاء الثاني من فبراير/ شباط 2011، المعروف باسم "موقعة الجمل". النمط نفسه والمنهج نفسه، بل وبعض الأشخاص الذين تطابقت صورهم في أحداث اليومين، واتّضح أن بينهم نوابا في البرلمان، ومعهم أتباع يعملون معهم. بل إن بينهم من حوكموا بالفعل قضائياً في أحداث "موقعة الجمل" وجرت تبرئتهم!
لكن على خلاف موقعة الجمل، نجحت الخطّة هذه المرّة. ليس بتفريق المتجمّعين، وإنما باستباق الإعلان الرسمي نتيجة تصويت المهندسين برفض سحب الثقة من النقيب، فتم تكسير الصناديق والعبث بأوراق التصويت، واكتمل تحقّق الغرض بهروب أعضاء اللجنة القضائية المشرفة على التصويت، قبل إعلان النتيجة النهائية رسمياً.
المهم دلالات هذا التشابه، أي تطابق تلك الرؤى الجامدة والتصوّرات المتكلسة المسيطرة على عقول قيادات الأجهزة التابعة للسلطة وعناصرها، وكذلك الكيانات والشخصيات السياسية التي تخدمها، حزبية كانت أو نقابية. وليس استخدام العنف المباشر ومنع إكمال الاستحقاق الديمقراطي النقابي إلا تعبيراً عن قِصر نظر وقصور رؤية. بل هو إفلاس ذاتي شامل، يجسّد عجزاً حقيقياً عن إنتاج أفكار جديدة أو إبداع أساليب مختلفة لتحقيق السيطرة المطلوبة. وكأن الاضطرار إلى اتّباع الآليات الديمقراطية ظاهرياً ومجاراة المتمسكين بها شكلياً، هو أقصى ما يمكن للسلطة تقديمه لإسكات الأصوات، فإن لم يفلح التخفّي وراء تلك المظاهر الشكلية في استدراج أولئك المشاكسين وإخضاع النقابات "بالديمقراطية"، فلا بأس بالمرّة في نسف العملية برمتها بعنفٍ مفضوح ومباشر.
تكرار الأسلوب ذاته بكل ما فيه من غُشم وحماقة وانكشاف يستدعي بقوة إلى الذاكرة المقولة الشهيرة المنسوبة إلى ألبرت أينشتاين "قمة الغباء أن تكرّر التجربة نفسها بالطريقة نفسها وتنتظر نتائج مختلفة". وبعد 12 عاماً، ازداد خلالها المصريون وعياً وزادوا ألماً، لو أن أينشتاين حي الآن، كيف كان سيصف إعادة إنتاج "موقعة الجمل"؟ من دون خيول ولا جِمال، لكن بالفكر والتخطيط نفسيهما بل والأشخاص أنفسهم.