25 اغسطس 2024
لوحة صهيونية في غاليري الأسد
اتصل بي شخص لا أعرفه، وقدّم لي نفسه قائلاً إن اسمه عبدو، ويكنى أبو محمد. وقال إنه يتابع قصصي ومقالاتي الصحافية التي يراها جميلة ومتميزة. وأكد على أن نقدي النظام كان يدل على شجاعة استثنائية حينما كنتُ أعيش في سورية، لكنه الآن لم يعد خطيراً جداً، فقد كان لدى النظام هدف واحد منذ البداية، هو إخراج المعارضين الذين يطالبون بدولةٍ مدنيةٍ ديمقراطية من البلد، باعتبار أنهم الوحيدون الذين يشكلون خطراً حقيقياً عليه، وبما أنك خرجتَ مع الخارجين فإن النظام لا يضعك في أولوياته.. وقال: ولكنني، بصراحة، أخاف عليك بسبب تماديك في نقد الجماعات الإسلامية، وبالأخص جبهة النصرة التي تحكم المناطق الخارجة عن سيطرة والنظام.. وقال إنه من الممكن أن يطاولك مؤيدو "النصرة" حيثما كنت في دول الجوار، ولا تنسَ أن هذه الجماعات، مهما ظهر من خلافاتٍ فيما بينها، يبقون على تَوَاصُل، ويمكن أن يقدم أحدُهم للآخر خدمة قتل شخص أعزل في مكان ما.
ولأنني أحسست الصدقَ في نبرة صوت الرجل، شكرته على مشاعره الطيبة، وحكيت له عن مشاجرةٍ جماعيةٍ وقعت في بلدتي معرتمصرين قبل حوالي سبعين سنة، أُوْقِفَ على إثرها عددٌ من أعمامي في مخفر الدرك. ولدى تسجيل أسمائهم في دفتر الضبوط اتضح للمحقق أن نسبة أربعين بالمئة منهم تقريباً يَحملون اسم "محمد بدلة: أبو عبدو"، ونسبة أربعين بالمئة يحملون اسم "عبدو بدلة: أبو محمد".. وأما العشرون بالمئة الباقون فأسماؤهم مشتقة من محمد وعبدو، وهي من قبيل: أحمد، محمود، حمدو، حميّد، عبود، عبيّد..، وقد سألهم المحقق إن كانوا يحملون هذه الأسماء بسبب التَدَيُّـن الشديد، فكان الجواب بالنفي القاطع، وأوضحوا له أن كل واحد مسمى على اسم جَدِّه، وأما لماذا سمي أجدادهم بهذه الأسماء فهم لا يعرفون.
سألني الشخص المتصل، المدعو أبو محمد، عن مغزى هذه الحكاية، فقلت له: إن الأسماء وجدت أساساً للتمييز بين البشر، وأما نحن، أهلَ هذه البلاد، فقد وجدت أسماؤنا لتزيدنا تشابهاً وابتعاداً عن التعيين.. وهأنذا أسألك عن اسمك فتقول لي "عبدو.. أبو محمد".
اعتذر أبو محمد عن هذا الخطأ، وقدم لي اسمه الصريح. وقال إن قلبه لا يطاوعه في نصحي بالتوقف عن "شرشحة" نظام الاستبداد والجماعات المستبدة التي لَعَنَتْ سنسفيلَ ثورتنا. ولكنه، من منطلق الحرص علي، يقترح أن أستخدم، في أثناء الانتقاد، لغةً مواربة تُعمي عني أعين كتاب التقارير، ولعلمك أن جبهة النصرة وداعش وجند الأقصى وجيش الإسلام صار عندهم كتاب تقارير، مثل نظام بيت الأسد، وحبة مسك.
انفتحت شهيتي، وأنا أسمع المُقْتَرَح الخاص باستخدام اللغة المواربة، على رواية الحكايات والطرائف للأخ العزيز أبي محمد. حكيت له عن أمسيةٍ أدبيةٍ أقيمت يوما في المركز الثقافي في الرّقة، وهناك قرأ صديقنا الشاعرُ "فؤاد" قصيدة يبدأها بقوله: من زاوية في المقهى ينسلُّ المُخْبِرُون.. فانتظره أحد المخبرين الجالسين في القاعة، حتى فرغ من الإلقاء، وقال له: لو أنك، يا أستاذ، لجأتَ إلى التورية فقلت، عوضاً عن المخبرين: عَيْنٌ تَلِصُّ.. فقال فؤاد: أُفَضِّلُ أن ألقي قصيدتي في القمامة على أن أستخدم عبارة "عينٌ تلصُّ".
وعلى سيرة المخبرين والتورية، كان صديقُنا الراحل عبد القادر عبدللي قد شارك في معرض جماعي لفناني محافظة إدلب، وكانت إحدى لوحاته السوريالية تشير إلى فساد ودمار وتخريب للبلاد. وفي أثناء تجول أحد مسؤولي حزب البعث في المعرض، توقف عند اللوحة، وقال: هذه اللوحة صهيونية.. وقال لعبد القادر: ارسم لنا لوحة بعنوان "لن نركع"، فارتجفت شفة عبد القادر العليا، كعادته عندما يغضب، وقال: أنا اختصاصي رسم لوحات صهيونية، وأما لوحة "لن نركع" فارسمها أنت وجماعتك.
وأدار له ظهره، وغادر المعرض.
ولأنني أحسست الصدقَ في نبرة صوت الرجل، شكرته على مشاعره الطيبة، وحكيت له عن مشاجرةٍ جماعيةٍ وقعت في بلدتي معرتمصرين قبل حوالي سبعين سنة، أُوْقِفَ على إثرها عددٌ من أعمامي في مخفر الدرك. ولدى تسجيل أسمائهم في دفتر الضبوط اتضح للمحقق أن نسبة أربعين بالمئة منهم تقريباً يَحملون اسم "محمد بدلة: أبو عبدو"، ونسبة أربعين بالمئة يحملون اسم "عبدو بدلة: أبو محمد".. وأما العشرون بالمئة الباقون فأسماؤهم مشتقة من محمد وعبدو، وهي من قبيل: أحمد، محمود، حمدو، حميّد، عبود، عبيّد..، وقد سألهم المحقق إن كانوا يحملون هذه الأسماء بسبب التَدَيُّـن الشديد، فكان الجواب بالنفي القاطع، وأوضحوا له أن كل واحد مسمى على اسم جَدِّه، وأما لماذا سمي أجدادهم بهذه الأسماء فهم لا يعرفون.
سألني الشخص المتصل، المدعو أبو محمد، عن مغزى هذه الحكاية، فقلت له: إن الأسماء وجدت أساساً للتمييز بين البشر، وأما نحن، أهلَ هذه البلاد، فقد وجدت أسماؤنا لتزيدنا تشابهاً وابتعاداً عن التعيين.. وهأنذا أسألك عن اسمك فتقول لي "عبدو.. أبو محمد".
اعتذر أبو محمد عن هذا الخطأ، وقدم لي اسمه الصريح. وقال إن قلبه لا يطاوعه في نصحي بالتوقف عن "شرشحة" نظام الاستبداد والجماعات المستبدة التي لَعَنَتْ سنسفيلَ ثورتنا. ولكنه، من منطلق الحرص علي، يقترح أن أستخدم، في أثناء الانتقاد، لغةً مواربة تُعمي عني أعين كتاب التقارير، ولعلمك أن جبهة النصرة وداعش وجند الأقصى وجيش الإسلام صار عندهم كتاب تقارير، مثل نظام بيت الأسد، وحبة مسك.
انفتحت شهيتي، وأنا أسمع المُقْتَرَح الخاص باستخدام اللغة المواربة، على رواية الحكايات والطرائف للأخ العزيز أبي محمد. حكيت له عن أمسيةٍ أدبيةٍ أقيمت يوما في المركز الثقافي في الرّقة، وهناك قرأ صديقنا الشاعرُ "فؤاد" قصيدة يبدأها بقوله: من زاوية في المقهى ينسلُّ المُخْبِرُون.. فانتظره أحد المخبرين الجالسين في القاعة، حتى فرغ من الإلقاء، وقال له: لو أنك، يا أستاذ، لجأتَ إلى التورية فقلت، عوضاً عن المخبرين: عَيْنٌ تَلِصُّ.. فقال فؤاد: أُفَضِّلُ أن ألقي قصيدتي في القمامة على أن أستخدم عبارة "عينٌ تلصُّ".
وعلى سيرة المخبرين والتورية، كان صديقُنا الراحل عبد القادر عبدللي قد شارك في معرض جماعي لفناني محافظة إدلب، وكانت إحدى لوحاته السوريالية تشير إلى فساد ودمار وتخريب للبلاد. وفي أثناء تجول أحد مسؤولي حزب البعث في المعرض، توقف عند اللوحة، وقال: هذه اللوحة صهيونية.. وقال لعبد القادر: ارسم لنا لوحة بعنوان "لن نركع"، فارتجفت شفة عبد القادر العليا، كعادته عندما يغضب، وقال: أنا اختصاصي رسم لوحات صهيونية، وأما لوحة "لن نركع" فارسمها أنت وجماعتك.
وأدار له ظهره، وغادر المعرض.