لن أعيش في جلباب الفقيه
ركبتُ تاكسي سبقتني إليه امرأتان تتحدّثان مع السائق، في شؤون المدينة. فجأة قال: منذ خرجتِ النّساء للعمل، فسدتِ المدينة. كانت فرصةً ليستطرد في شرح وجهة نظره العنيفة ضدّ المرأة. لم أُجبه، بينما جادلتهُ المرأتان، فازداد اندفاعاً وقال: "لو كان بيدي لذبحتُ سبعَ نساء في عيد الأضحى هذا"، الذي كان على الأبواب. ولأنّ المرأتين شعرتا بحجم الورطة، وربما الخوف، صمتتا إلى أن نزلتا. بينما قلتُ ساخرة: "قلبكَ عامر على النساء"، ووافقني.
حين نزلتِ المرأتان، ولأنّني لم أنفعل، وكيف أفعل أمام شخصٍ يتحدّث عن قتلِ سبع نساء دفعة واحدة؟ قال بلهجة مختلفة: "أنا يا عمّو أتحدّث من تجربتي، وليس لي شأن بالناس، ولا أحكم على اللواتي لا أعرفهن، بل أتحدّث عن زوجتي". وصف زوجته بلغة غاضبة، وحكى عمّا فعلت به بعد خمسين سنة من الزّواج، وتسعة أولاد. ثم عاد ليؤكّد أهم ما قال، إنه يتحدّث من منطلق تجربة شخصية عن امرأة واحدة. ويبدو أن المرأتين ذكّرتاه بها، لذا كان يهاجمهما، مفرّغاً غضبه على نساء بريئات.
الموقف العنيف للرّجل البسيط أبلغ ما يمكن التعبير به عن العلاقة بين الرّجل والمرأة، وموقف كلٍّ منهما تجاه الآخر، والعنفِ تجاهه، كلّ منهما ينطلق من تجربته الشّخصية مع الآخر، ليحقد عليه أو يتصالح معه. وكثير منهما يلقي اللوم في فشله الشّخصي على الآخر. ولو أن للنساء نصيبا من الصواب، بالنظر إلى السّيطرة الذكورية على المشهد، والفيلم، والمسرحية بجل فصولها.
وما أعلنته النساء في إيران، من ثورة، لا يمكن حصرها ضدّ القيود على اللّباس، بل تتسع لتشمل عقوداً من العيش في جلباب الجنس الثاني المنبوذ. إضافةً إلى القمع العام على الآراء المخالفة، والاستبداد الذي لا يكتفي بالاستيلاء على القرار السّياسي. بل يمتد ليحشر أنفه في بيوت الناس، وملابسهم وتفاصيل يومهم. وهو استبداد يشمل النّساء والرجال ربما، لكن النساء ضحاياه المفضلات.
يمكن قراءة الحدث على ضوء ما يحدُث في المجتمعات العربية التي تعاني من سيطرة عقلية ذكورية عامة، تُمثّلها الأسر والشوارع والمدارس وأماكن العمل. ولا تقلّ مشكلاتها مع الخروج من الأوساط العائليّة المحافظة. بل تصل إلى أماكن الدراسة والعمل، ومجالات الصّداقة والعلاقات الإنسانية النّاشئة بين النساء والرجال، في الفضاءات العامّة، مع أنداد لهم خلفية معرفية وثقافية جيدة. وحتى مع هؤلاء، تُواجه المرأة في المنطقة العربية رجالاً قد يثور بعض منهم على "فيسبوك"، ويؤذون النساء حولهم بطرق مختلفة.
الحالة الإيرانية خاصة بإيران في جزء كبير منها. لكن كثيرا من مظاهرها موجودة عندنا، إنما بعض من تفاعل معها، وساند النساء هناك لن يفعل الشّيء نفسه هنا. وبعضهم صار يصفّي حساباته هنا انطلاقاً من هناك. وهم في معظمهم من يقف ضد ارتداء الحجاب والمتعاطفين معه. بينما يفترض أن على من لديه حساب فردي التحرّر منه حيث هو. وليعبّر باسمه بلا مناسبة، من دون المسّ بحرية الآخرين واختياراتهم التي لا يمكن أن يقوم أحد بالوصاية عليها حتى لو كانت غير صائبة في نظره، فالحرّية لا يمكن تفسيرها على هوى كلّ طرف. الحرية شاسعة جداً، لن يحجَبها ثوب، ولن تنحصر في جسدٍ متحرّر من الوصاية الذكورية، بل تشمل حرية التفكير والتّعبير، وكل شروط الحياة الكريمة التي نفتقد كثيرا منها.
لا يكفي أن تحزن على شيء، وتتجاهل أشياء أخرى. الإنسان الحرّ ينتفض من أجل مجالات الحرّية كلها، ابتداء من حفظ الكرامة الإنسانية، والديمقراطية، وبقية الحقوق التي يُتّخذ القرار فيها سياسياً. وينتفض ضد التّفقير والتّجهيل والاستبداد بكلّ أشكاله. ويكون هو نفسُه نموذجاً لما يطالب به في سلوكه وطريقة عيشه، وإخلاصه في عمله، واحترامه حرّيات الآخرين. ولكن لا يمكن لبيئات مترهّلة سياسياً وثقافياً واجتماعياً أن تنتج أسلوباً سليماً للحوار، أو أفرادا يستمعون أكثر مما يتكلمون.
ويبقى تحدّي إدراك طُرق الحوار، ومجالات الحرّية الواسعة، أكبر ما يواجه المجتمعات في المنطقة العربية التي تتعثّر في فهم مجال الفرد داخل الجماعة، ومجال الفرد في علاقته مع فرد آخر. لكن هذا المنطق لا يمكن أن يفهمه من تشرّب حليب السّيطرة الذكورية، أو لبن الخنوع الأنثوي.