لنعد خطوة إلى الوراء

19 ديسمبر 2020

(وائل درويش)

+ الخط -

يحتاج المرء، بين حين وآخر، للتراجع خطوة إلى الوراء، لرؤية مكانه الحالي، وتقييم ما وصل إليه من أجل تصحيح المسار. يحتاج مثل هذا الأمر مراراً في حياته، فالرسّام مثلاً لا يمكن له التيقّن من جودة رسمته ما لم يتراجع إلى الخلف بضعة أقدام، لرؤيتها من مختلف الزوايا، تحت ضوء الشمس أو ضوء الغرفة. سيكون الأمر نافعاً له، تحديداً في وضع اللمسات الأخيرة للوحة. يُمكن اعتماد هذا الأسلوب في كل جزئيات يومياتنا، ما سيُفضي إلى تحسين مستوياتٍ عدّة في سلوكاتنا وتفكيرنا ووعينا، ويزيد من إنتاجيتنا ويمنحنا الطاقة اللازمة لكسر الرتابة، إذا وُجدت في زمن فيروس كورونا الحالي، أو تشرّع آفاقاً جديدة لنا. تُسهم مثل هذه الخطوات في تحصين أنفسنا أمام "مجهولٍ" ما قد يُفاجئنا في أي لحظة، فلا نعود أسرى عشوائية السلوك وفوضوية ردود الأفعال الغرائزية، بل تُصبح عبارة "الأمور تحت السيطرة" جزءاً من وعينا ولاوعينا. يسمح هذا النوع من التصرّف بإتاحة المجال للتأمّل الذاتي، والبحث عن الأخطاء المُرتكبة بحقّ أنفسنا أولاً، ثم بحقّ المحيط ثانياً، بغية العمل على إصلاحها. 

الآن، إن لم تفعل ذلك، ستكون عرضةً لاجتياح عشوائي غرائزي في رأسك للعقيدة التي تُهيمن عليك، لأنه تمّ تلقينك إياها، ولم تعتنقها بعقلٍ واعٍ. ذلك لأن العقيدة التي تهيمن عليك بجمادها من دون امتلاك ميزة تطويرها لمواكبة تطور العقول والأجيال المرتبط بالتقدّم التقني والعلمي، ستؤدّي إلى تضييق مستويات تفكيرك، إلى الحدّ الذي تُصبح فيه "مضطرّاً" لتسويق الأكاذيب والشائعات، وحتى حمل السلاح، لمواجهة أي فكرةٍ مناوئةٍ لها. والذي يقتنع بعقيدة ما، بعد دراستها، يُصبح أكثر قدرةً على تسويقها بشجاعة وذكاء، من دون الحاجة إلى الكذب ولا النفاق. ربما قد لا يُقنع أي شخص آخر غيره بها، لكنه لن يحمل السلاح لقتله باسم هذه العقيدة. مثل هذا الشخص، اتخذ خطوة عن وعي، بعد تراجعه خطوة إلى الوراء وتقييم مسار حياته.

الأسوأ أن هناك من يسمحون لسيطرة العقيدة عليهم، وتحوّلهم إلى عبيدٍ لها، واعتبارها "أمراً مقدّساً لا يجوز المسّ به"، مهما تدهورت حياة المجتمعات والأفراد اليومية، هؤلاء تحديداً لا يجب أن يكونوا في موقع قرار. لأنهم، عملياً، تحوّلوا إلى أدواتٍ للعقيدة، أشبه بالجيوش النازية والفاشية في ألمانيا وإيطاليا، والتي تصرّفت كالآلات بوجّه الناس وأفكار الناس وحياة الناس، بالمجازر والاعتقالات. وهو ما أدّى إلى سقوطها المريع في نهاية الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945). الأهم أن تلك الحركات لم تعد قادرةً على الوصول إلى السلطة، فالشعبان، الألماني والإيطالي، لن يسمحا باحتمال عودتها إلى السلطة، مهما زادت حدّة الشعارات المتطرفة، ومهما تدهورت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية.

انظروا إلى أنفسكم وحولكم، كلّ في منطقته وبلده، ستجدون أنماطاً من البشر، أسرى العقائد الجامدة، سيحاولون إقناعكم بالقوة، لا بالحوار، بـ"صدقية" تلك العقائد. لن يفهموا أنكم مختلفون عنهم، ولن يصدّقوا أنه يُمكن اعتناق أفكار مغايرة عنهم، بل سيعمدون إلى محاربتكم واعتباركم خارج الجغرافيا والتاريخ. سيُقال عنكم إنكم "عملاء وخونة"، وسيتم اتهامكم بأنكم "تعملون ضد مصلحة البلد"، طبعاً لا يحتاجون إلى دليل، وقد يصنعون واحداً في حال كانوا مسيطرين على أجهزة أمنية في بلدكم. الأمثلة كثيرة وأرشيف "الأمة العربية" يزخر بذلك. 

مثل هؤلاء لن يتمكّنوا من الاستمرار في السلطة إلى "الأبد المجتمعي"، على الرغم من أن "الأبد الفردي" ينتهي عند مماتنا، لكن حتمية الحياة والتاريخ وتطوّر البشرية تمنع أي انتصار لأي جمادٍ. مثل هؤلاء لا يمكن لهم الخروج من حدودٍ رسمها من هم قبلهم، لأنهم يخشون الموجود خارج تلك الحدود. الخوف من المجهول طبيعي، لكن من غير الطبيعي إقناع كل الناس بهذا الخوف، بل وإجبارهم على الشعور بالخوف، فقط لأنهم مختلفون.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".