لمّا مات حافظ الأسد

18 يونيو 2023
+ الخط -

 

أصبحت معظم شهور السنة، بالنسبة إلينا، نحن السوريين، كئيبة، ولكن شهر يونيو/ حزيران يحتوي على جرعةٍ مضاعفةٍ من الكآبة. لماذا؟ ألأننا خسرنا خلاله الحرب في سنة 1967؟ الجواب: ظاهرياً نعم، وفي الحقيقة لا، فنحن، أبناء "الشعب السوري"، لم نخسر هذه الحرب، ولا غيرها، والسبب، ببساطة، أن الضباط الانقلابيين الذين تزاحموا على كرسي الحكم في بلادنا، منذ سنة جلاء القوات الفرنسية عن أرضنا، 1946، لم يسألونا قَطُّ عن رأينا، لا بالحرب، ولا بالسلم، ولا حتى بتحويل اللفت إلى مخلّل، وتقشير البصل من دون دموع. وإذا وُجد بيننا رجل شجاع إلى درجة أن يقول رأيَه بصراحة، سرعان ما يُزجَر، ويُنهر، ويُوبّخ شفوياً، أو يُضرب، أو يُعتقل، ويُساق إلى مكان تحت الأرض (إذ لا توجد في هذه البلاد الصامدة معتقلات فوق الأرض!)، ويُدفع في ظَهره، بعد استقبالٍ حافل بالضرب والتعذيب، للمثول أمام رجلٍ تافه، متطوّع في هذا السلك الخسيس، بعد أن تُطَمَّش عيناه، كعيني البغل الذي يُكْدَنُ على الساقية لاستخراج الماء، ويبدأ هذا الضابط التافه، المدلّل، باستجوابه، متقصّداً إخراج نصف الكلام من منخاره. لا يسأله عن مضمون الرأي، بالطبع، أو هل هو صحيح أم خاطئ، بل عن الجهات الخارجية الاستعمارية، والجهات الداخلية الرجعية التي دفعته إلى أن يقول رأياً، على الرغم من معرفته بوجود قائدٍ حكيم، ربّانٍ مُلْهَم، يقول الرأيَ كله بالنيابة عن الشعب السوري العظيم، ليوصله، بسفينته التاريخية، إلى برّ الأمان.
تساءلتُ، في زاويتي الأسبوع الماضي في "العربي الجديد"، 11/ 6/ 2023، عن الضياع الذي كنّا نعاني منه نحن المثقفين، عندما استغرقنا الحزنُ إثر الهزيمة، فرحنا ننقّب في الجزئيات والتفاصيل الصغيرة التي أدّت إلى حدوثها، ولَطَّفْنَا اسمَها فجعلناه "نكسة"، ولم نلتفت إلى الأسئلة الخطيرة الموجعة التي يمكن أن تشفي غليل الباحث عن أسبابها: لماذا قبلنا أن يقودنا العسكر ويبدّدوا أرضنا ومالنا وشعبنا في اقتتالهم الداخلي وحروبهم الخارجية الخاسرة؟ ولماذا لم نطرح، في كتاباتنا، موضوعَ العقد الاجتماعي، والديمقراطية، والتداول السلمي للسلطة، وتحديث الدستور والقوانين والبنى الأساسية للمجتمع؟ وقبل أن نحكي عن الأسباب التكتيكية، والتعبوية، ونقص التسليح والتذخير والتموين التي أدّت إلى الهزيمة، أما كان حرياً بنا أن نسأل عن ضرورة الحرب من أساسها؟ وإذا كنّا، يومئذ، لا نمتلك 51% على الأقل، من عوامل تحقيق النصر، فلماذا دخلناها؟ وإذا كنّا يائسين تماماً من المقدرة على مواجهة إسرائيل، وإرغامها عسكرياً على التوقف عن العدوان والتوسّع، لماذا لم نفكّر بالصلح معها، منذ تلك الأيام المبكّرة؟ لو صالحناها، أما كنّا حقنّا دماء عشرات الألوف من أبناء شعبنا، ووفّرنا مليارات الدولارات وصرفناها على التنمية والتعليم والصناعة والزراعة؟
وفي العاشر من يونيو/ حزيران الكئيب، سنة 2000، أخطأنا، كذلك، حينما فرحنا، وضحكنا في عبّنا، وصرنا نتبادل التهاني في السر، لأن يد القدر اختطفت ذلك الرئيس السفاح حافظَ الأسد الذي وضع بلادنا، ومقدّرات شعبنا، على كفّ عفريت، وملأها بالأحقاد، وأطلق يد فريق صغير من السوريين في رزق غالبيتهم، متيحاً لهم أن يأخذوا ما يشاؤون من مناصب، ومكاسب، وأرصدة في البنوك العالمية، شرط أن يُحكِموا سيطرتهم على باقي فئات الشعب (العظيم)، فيفقروها، ويذلّوها، ويمنعوها من مجرّد التفكير في قول رأي أو فعل شيء. بماذا أفادنا موته! هل كان ذلك يعني انتهاء حقبته؟ ألم نكن نعلم أنه أمضى سنوات في إعداد ابنه باسل ليكون وريثه، وبمجرد ما قُتل في حادث سيارة أوعز إلى ابنه المضطرب، بشّار، بأن يأتي من بريطانيا على جناح السرعة، ويستلم رقاب هذا الشعب المسكين الغلبان المنكوب بنظام الأسد نفسه، وبالفقر، والجهل، والنخب الثقافية التي كانت، وما زالت تغرق في شبر ماء، وتترك الجوهري وتُطنب في الحديث عن الأمور الهامشية؟

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...