لماذا يا ليون الأفريقي؟
"لا يمكن للمرء في حالات بعينها أن يظلّ فيلسوفا إلّا إذا لزم الصّمت". يقول المثل العتيق، ويمكن أن يكون الحكيمُ فيلسوفاً في صمته، حتّى إن لم يكن كذلك في كلامه. ويقع الفارس أحيانا في كبوةٍ لسان، ووقع مدرّب منتخب المغرب وليد الركراكي في كبوتين غير ضروريتين. تحملان هواجس الثقافة إلى الرياضة، وتضعان الرّياضي أمام مزالق الوعي التواصلي.
للمرّة الثانية، يجيب الركراكي عن سؤالٍ صحافيّ "لا علاقة له بالصحافة"، عن أن منتخبه هو المنتخب العربي الوحيد الذي يحمل آمال العرب في الأدوار المقبلة: المرة الأولى في كأس العالم، والثانية في كأس أفريقيا التي تدور رحاها الآن. أجاب إن المنتخب يمثل المغرب وأفريقيا فقط، وغير معنيٍّ بالباقي. لكن سؤال التّمثيلية لا يجيب عنه لاعبو كرة القدم، فهو موضوع يختلف عليه المفكّرون أنفسهم.
أخطأ الركراكي في تصريحيه الاثنين مرتين، أولا: لأنه أجاب نيابة عن المنتخب، في مسألة لا تتعلّق بالكرة، بل بالقناعات الفكرية والثقافية لكل أعضاء الفريق. بينما ينحصر دوره في الحديث عن الأداء الكروي، وكل ما يتعلق بالمباريات. وترك المزالق الثقافية، وحيرة الهوية، لمكان آخر، وربما لزمن آخر يتحدّث فيه بصفته الشخصية لا المهنية.
لم يكتف وليد بأن يمثل صوت الفريق الوطني فقط هنا، بل تحدّث باسم كل المغاربة، محدّداً انتماء منتخبهم الوطني، بغض النظر عن مواقفهم هم. مع أنّ أي فريق قد يكون له محبّون في العالم بأسره. لنأخذ أحد المنتخبات الكبرى مثل منتخب الأرجنتين الذي فاز بكأس العالم، وله عشّاق يشعرون بالانتماء إليه كما يفعل الأرجنتينيون أنفسهم. هل يمكن لمدرّبه أن يقول: لا شأن لنا بهم، نحن نمثل أميركا اللاتينية والأرجنتين فقط؟
لماذا لم يتجنّب وليد "الأسد الأفريقي" الخوض في هذا الموضوع؟ ليس من باب الدبلوماسية فقط، بل أيضا من باب تقدير الجمهور، فيحترم كل من يساند المنتخب، حتى لو كان في الصين، بل يشكره ويراه جزءا من طاقة الفريق، لأن كلاً منهم يرى فيه نفسه... أليس هذا انتماء؟ خصوصا في الكرة، حيث تختلف الانتماءات عن باقي مجالات الحياة، وهو أعلم بذلك بعد مشواره الكروي. وإذا لم يوفّق في هذا، ليقل: نحن نلعب كرة القدم، في منافسةٍ كرويةٍ محضةٍ لا دخل للانتماءات الثقافية فيها، ويشكر واجبا كل من يشجّعه.
تعني الرّوح الرياضية عدم منح اللعبة أبعاداً أخرى، تحرض على التعصّب، بدل أن تمثل لحظة مباراة بين فريقين لهما مشجّعون بطبيعة الحال، لكن من دون إعطاء الانتصار في الملعب أو الهزيمة حجماً أكبر مما يمكن تفسيره رياضيا وتقنيا، فالذي يُحسن اللعب يفوز، والذي لم يحسن استغلال الفرص أو تهوّر، أو ارتكب غيرها من الأخطاء، يخسر. الأمر بسيط إلى درجة أنه يمكن لأيٍّ كان، مهما كانت ثقافته، أن يعبّر عنه بسلاسة وسلامة.
مع ذلك، هناك ظروف تخفيف على سلوك الركراكي، بالنظر إلى حجم التفاعل. كان بعضهم مصفقاً، ففي النهاية هذا مدرّب منتخب حقق إنجازات، ولو كان العكس لربما اختلف الوضع. لكن آخرين كانوا متحاملين، خصوصا في كبوة الركراكي أخيرا، مع حديثه بالفرنسية، فتعليقه الحرفي الذي ترجمه بعضهم "il m’intéresse pas" بأنه قال "لا يهمّني" إقصاء باقي الدول "العربية"، لكن المقصود أنه "لا يشغلني". الفوارق الثقافية واللغوية تحضُر هنا أيضاً، لأن مزالقها كثيرة، فأُخذت الجملة إلى التفسير الأقصى، بدل التفسير الأخفّ لقصدها.
لو قال الركراكي الذي يعتمد خطابُه التواصلي على فعل الصدمة إن ما يشغلنا هو أداء منتخبنا في المباراة المقبلة لكسرَ قدميْ الجدل غير المنتج، في مجالٍ يتحدّث فيه الجميع. فيما يمكن أن يُطرح هذا النقاش في مسألة سياسية أو ثقافية وستكون الآراء فيها عقلانية نسبياً. أما في كرة القدم التي هي لعبة جماهيرية شعبوية، يتم استغلالها لنشر الحزازات والتعصّب بسهولة، إذا أخرجت من بعدها الرياضي، فأيّ نقاشٍ في إطارها سيكون شعبوياً، ينخرط فيه كلُّ ذي "نية" حسنة أو سيئة.